فرنسا أمام رمال الساحل المتحركة (2)
أعلنت مالى مؤخراً أنها بصدد التباحث لإبرام اتفاق مع الشركة الأمنية الروسية شبه العسكرية «فاجنر»، هذا ما أعلنه وزير الدفاع المالى هذا الأسبوع، مع تأكيده أنه لم يوقع اتفاقاً حتى الآن، وأن الأمر ما زال فى مرحلة البحث. ومع ذلك تسرّب بعض من تفاصيل ما تريده مالى فى الوقت الراهن من هذه الشركة، الذى يبدو للوهلة الأولى أنه يمس المصالح ودوائر النفوذ الفرنسية بشكل مباشر، فما توصلت له «باماكو» مع الجانب الروسى أن يقوم الأخير بنشر ألف مقاتل كدفعة أولى، ليقوموا بمهام «النواة» للقوات المسلحة المالية الجديدة المزمع تطوير مهامها بحسب ما يتردد فى أروقة الجيش المالى. ما أثار القلق والتحفظ الفرنسى أن هذه الاتفاقية تشبه إلى حد كبير الفصول الأولى من الوجود العسكرى الروسى فى أفريقيا الوسطى، الذى بدأ فى 2017 تحت مسمى تدريب جيش الدولة، التى كانت تعانى من اضطرابات كبيرة على خلفية أزمة الانتخابات فى 2016، تلتها بعد ذلك هجمات نفذها متمردون بالعاصمة «بانجى» ضد سلطة الرئيس فوستان تواديرا، ما دفع روسيا إلى إرسال أربعة جنرالات بقيادة فاليرى زاخاروف، الذى تولى منصب مستشار الأمن القومى للرئيس تواديرا.
منذ هذا المتغير الكبير الذى مثَّل إزاحة شبه كاملة للنفوذ الفرنسى من أفريقيا الوسطى، حيث دخلت روسيا بقوة وسرعة كى تؤمِّن سيطرة «تواديرا» على السلطة، فى مواجهة قوات مناوئة أغرقت البلاد فى حرب أهلية مريرة، ما استلزم صدور قرار بحظر مبكر على الأسلحة من الأمم المتحدة منذ العام 2013، تقف بالطبع كل من فرنسا وروسيا على طرفى النقيض منه. فـ«باريس» تعد من وجهة النظر الأفريقية أبرز داعم للقرار، وما زالت تدافع عنه حتى اليوم، فى المقابل نجحت «موسكو»، منذ العام 2019 وحتى الآن، فى الحصول على إعفاءات من الأمم المتحدة لتسليم أسلحة صغيرة لوحدات من الجيش والأمن فى أفريقيا الوسطى. تزامنت تلك الأحداث مع حملات إعلامية تراها فرنسا «ممنهجة» ويراد لها أن تتجاوز أفريقيا الوسطى، لتمتد إلى باقى دول الساحل بأكملها، منها مالى وغيرها، تحمل خطاباً مركزاً يعيد إنتاج صورة روسيا فى أفريقيا كشريك موثوق به وعملى قادر على إحداث اختراق فى القرارات الدولية، خلافاً للعقيدة الفرنسية التى تفرض طوال الوقت الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية مقابل مساعدتها لتلك الدول.
لذلك وبضغط من المعلومات الفرنسية القادرة باريس على توفيرها عن هذه المناطق والدول، بما لديها من بنية استخباراتية ما زالت تمتلك مهارة كشف العديد من الحقائق، وضعت المجتمع الدولى وحلفاءها الغربيين، «غير المرحبين» بتلك المتغيرات، أمام قضية تغلغل شركة «فاجنر» فى نسيج البلدان الأفريقية التى تعانى من هشاشة مزمنة. هذا دفع الأمم المتحدة إلى التنديد أكثر من مرة بحق مئات المسلحين من مجموعة «فاجنر» الأمنية الخاصة، التى تجاوزت مهمتها فى حفظ الأمن الافتراضى، الذى ليس له سند شرعى بالأساس، خاصة مع قيامها بمهام تتعلق مباشرة بمكافحة التمرد، إلى بداية تأمين حصول «موسكو» على عقود تعدين لشركات روسية من أجل استغلال الذهب والألماس. هذا التطور فى النفوذ الروسى وسحب البساط من تحت أقدام فرنسا، أطلق ألسنة خبراء الأمم المتحدة للحديث عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وتورط فى «إعدامات جماعية» و«تعذيب» من قبَل القوات شبه العسكرية الروسية، كما بدأت التقارير الصادرة عن جهات الرقابة المالية الدولية المستقلة تكشف عن وقائع بالأدلة لها علاقة بجرائم «غسيل أموال» تُستخدم فى تمويل عمليات النهب والقتل، التى تخدم مصالح رئيس أفريقيا الوسطى وحلفاءه الخارجيين، وبالأخص شركة «فاجنر» بالاسم.
اضطرت السلطة فى «بانجى» أن تنحو إلى جانب التهدئة على خلفية الإعلان عن تلك التقارير، التى بدا أنها غير بعيدة كثيراً عن الحقيقة وعن ما ذكره الرئيس الفرنسى مؤخراً وهو يعلق إسهام بلاده فى تمويل المساعدات إلى أفريقيا الوسطى، «ماكرون» استهجن بالطبع الحملة الممنهجة ضد فرنسا، واعتبرها بمثابة «شرعنة» لوجود مرتزقة روس على رأس الدولة حول الرئيس تواديرا، الذى يصفه نظيره الفرنسى بالرهينة لدى مجموعة «فاجنر». ملامح التهدئة تمثلت فى دفع «بانجى» لرئيس الوزراء «فيرمين نجريبادا» إلى تقديم استقالته فى يونيو الماضى، بعد سنوات اعتبر فيها رجل الروس الأول ومهندس التقارب بين «موسكو» و«فاجنر»، ورأس السلطة فى بلاده، وأن عقود الشركات الروسية كانت إدارته تقف وراءها بقوة وتمرر بتوصية شخصية منه، خلال سنوات تقاسم هو وفاليرى زاخاروف، مستشار الأمن القومى للرئيس، مساحات النفوذ التى مكنتهما من إزاحة فرنسا وتثبيت الروس مكانها. وجاء اختيار بديله فى المنصب هنرى مارى دوندرا، الذى يوصف بأنه أقرب إلى فرنسا، فى محاولة لتجنب ضغوط المساءلة الدولية التى بدأت تضيق الخناق على السلطة فى أفريقيا الوسطى، وتتعقب التوغل الروسى لترصد وتسجل ما تقوم به رسمياً أو عبر وكلاء غير رسميين.
هذا بعض مما يجرى على التخوم المباشرة لدول الساحل الخمس، التى ظلت لسنوات ينظر لها باعتبارها مستقراً تتمتع فيه باريس بالنفوذ الأكبر، وفق معطيات القدرة على التأثير والتحكم الذى بدأ يتخلخل بشدة اليوم، فقد فقدت فرنسا حليفين كبيرين فى فترة وجيزة؛ إدريس ديبى بالاغتيال فى تشاد، ومحمد يوسفو، الذى خسر الانتخابات بصورة غير متوقعة فى النيجر. الأول ظل لعقود مقاتلاً شرساً لأى تدخلات غير فرنسية فى المنطقة، و«يوسفو» كان فى صدارة الداعمين سياسياً ومؤيداً للعملية العسكرية (برخان)، بل وواجه كلاً من مالى وبوركينا فاسو فى تراجعهما وانقلاب مواقفهما ضد وجود القوات الفرنسية، وظل مشهد احتشاد المسيرات الشعبية فى ميدان الاستقلال بـ«بوماكو»، عاصمة مالى، المطالبة برحيل القوات الفرنسية تدلل على انفراط العقد فى تسارع ربما لم يخطر ببال «باريس»، وقت كان يقف فيه الرئيس السابق فرانسوا أولاند، قبل ثمانية أعوام، وسط ذات الميدان يعلن فيه إطلاق فرنسا لعملياتها العسكرية ضد الإرهاب الذى كان يعصف بالدول الخمس مجتمعة، ولا يزال!