بحيرة المنزلة.. البروستريكا مرة أخرى
تسعة أشهر ونصف الشهر، مرت على المقال الذى كتبته هنا بتاريخ 26/11/2020، بعنوان (بحيرة المنزلة.. بروستريكا الثروة السمكية)، وكنت يومها على يقين من أن الرئيس السيسى سيقلب الدنيا رأساً على عقب، كعادته حينما تقع يداه على خطأ، يمس البلاد والعباد فى وطن هو حارس عليه أمام الله، وطن يعانى العوز والفقر، ويحبو منتجوه فى شتى المجالات لسد فجوة غذائية قوامها نحو 160 مليار جنيه.
مؤكد أن الرئيس كان قد قرأ وسمع منذ أن كان ضابطاً صغيراً فى الجيش المصرى، وربما قبل ذلك، عن ملف بحيرات مصر، وما تعرضت له من تجفيف لمساحاتها، وتجريف لمنابع خيراتها المتمثلة فى الثروة السمكية والأحياء البحرية والطيور البرية، فوجه، حين أُلقِيت بين يديه الأمانة، بضرورة فتح هذا الملف بنية التنمية، والقضاء على المخالفات والمخالفين.
ليس بالضرورة أن يكون رئيس الدولة، كغيره من رؤساء أعظم الدول، خبيراً بعلوم البحار والمصايد الطبيعية، لذلك طلب من أهل الذكر تقديم الرؤى المسندة بعلم تدعمه آليات تنفيذ حقيقية، ودراسات الجدوى المثبتة بحقائق علمية، لحل مشكلات بحيرات مصر، وأهمها: الإطماء الرسوبى، التلوث، البلطجة، التعديات، والصيد الجائر، فتسابق الكثير من أعضاء الصفوف الأولى خلف الرئيس، والدوائر الأولى المحيطة به، من باب «استبقوا الخيرات».
بدا من نتائج الأعمال المتخصصة التى خضعت لها بحيرة المنزلة، أن معظم الدراسات المعروضة على الرئيس تلاقت عند نقطة التطهير بالتكريك، الذى يعنى التعميق، فتطلب الأمر تخصيص المليارات لمشروع تحسين بحيرة المنزلة بهدف تنمية الثروة السمكية، وتحسين حياة آلاف الصيادين، والأسر التى تعيش على خيرات البحيرة منذ آلاف السنين.
وجه الرئيس بشراء حفارات عملاقة لإنجاز عمليات التكريك بإتقان وسرعة، ولأن التكريك يلزمه توفير أحواض ترسيب لإلقاء الطمى الناتج، تمهيداً لنقله عبر صنادل عائمة، فمن الطبيعى أن يحدث سيلان وانتشار بطىء عبر حلقات ودوائر تتسع عبر خاصية الانتشار فى المياه، ليعقب التعميق إطماء مساحات واسعة من البحيرة، وهو ما رصده ناشطون خبراء بالبحيرة وشعابها، ومنهم الدكتور معاطى قشطة، أستاذ البحوث المتفرغ فى مركز البحوث الزراعية، وأحد أبناء قرية «لثة الجمالية» الجاثمة تاريخياً على مساحة عملاقة من جسد بحيرة المنزلة القديم.
ولأن معاطى قشطة من أبناء الصيادين الذين تربوا على مراكب الصيد الصغيرة فى بحيرة المنزلة، فقد اجتذبته علوم البحيرات، إلى جانب بحوث المحاصيل، وتفرغ لأوقات طيبة من عمره الذى تجاوز السبعين عاماً، فى الكتابة والدفاع عن البحيرة، فسجل فيديوهات بهاتفه المحمول، على ظهر «فلوكة» صغيرة، يقودها صياد من بين آلاف الصيادين الذين جفت منابع أرزاقهم فى البحيرة، سواء فى مناطق التعميق، أو فى المساحات التى تعرضت للإطماء، حتى شبهها قشطة بصحراء شاسعة يغمرها «شبر ماء».
لا تزال أعمال التكريك باسم «التطهير» على أشدها، على الرغم من الرسائل المسجلة والمصورة والمكتوبة التى يصوغها أصحابها بحرارة الصدق، وبمشاعر الوطنية الخالية من المزايدة على المسئولين، سواء فى هيئة الثروة السمكية، أو الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المكلفة بإنجاز مشروع تطوير البحيرات وتحسينها.
بحيرة المنزلة بصورتها الحالية، بعد إنجاز الكثير من عمليات التكريك، يحسبها الجاهل بعلوم البحيرات والمصايد الطبيعية، إنجازاً حضارياً، حيث الاتساع اللانهائى لمد البصر على بساط الماء، وخلو البحيرة من مخابئ الخارجين على القانون أرباب البلطجة، وإزالة تحويطات المزارع السمكية المخالفة، وتجفيف منابع موتورات الصيد الممنوعة التى يقودها هاربون من تنفيذ أحكام قانونية، لكنه لا يدرك حقيقة تحويلها من بحيرة طبيعية إلى مساحات مائية عميقة خالية من البوص والطحالب الخضراء، لا تصلح إلا للاستزراع السمكى، بمعنى قطع أرزاق آلاف الأسر التى عاشت عقوداً طويلة على الصيد الحر، والحرف التقليدية بتصنيع البوص.
نهاية كل مشروع نتيجة ينتظرها المخطِط المكلِّف، والنتائج الواردة من أهلها تعكس صورة مؤسفة، ترجمتها تشير إلى أن تطهير بحيرة المنزلة من البلطجة تم على طريقة «حرق بيت عامر للقضاء على صرصار».