استراتيجية حقوق الإنسان خطوة في الطريق الصحيح
تلقت حالة حقوق الإنسان الوطنية دفعة قوية، أمس السبت، حين أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى إطلاق «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان»، فى محفل مميز انعقد فى العاصمة الإدارية، وحضره ممثلون عن جميع الأطراف المعنية والفاعلة فى الملف الحقوقى.
وقد قال الرئيس كلاماً مهماً عن الحالة الحقوقية الوطنية وعن تصوره لتلك الاستراتيجية ودورها فى تعزيز تلك الحالة، لكن من أبرز ما قاله فى هذا الصدد أن إطلاق تلك الوثيقة يمثل لحظة مضيئة فى تاريخ مصر المعاصر.
إنها بالفعل لحظة مضيئة، لأن مصر بات لديها لأول مرة وثيقة مُعلنة ترسى معالم استراتيجية واضحة لمقاربة الحالة الحقوقية، وهو أمر لم يحدث للأسف على مدى عقود طويلة امتدت منذ شاركنا فى صياغة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى العام 1948.
ورغم أن مصر أظهرت تفاعلاً إيجابياً مع مختلف الفعاليات الحقوقية الدولية التى شهدها العالم منذ العقد السادس من القرن الماضى وحتى يومنا هذا، ورغم أنها وقعت على عدد كبير من الاتفاقات والمعاهدات الدولية فى هذا الشأن، ورغم أن التعديلات الدستورية التى تم إقرارها فى 2014 تنطوى على مقاربة حقوقية حداثية ومتقدمة، فإننا لم نكن ننظم جهودنا الحقوقية ضمن استراتيجية محددة بتوقيتات ملزمة، ولم نعهد إلى كيان حكومى مؤسسى بمتابعة الأداء العمومى فى إطار تفعيل تلك الاستراتيجية إلا قبل يومين.
لم تكن الدولة المصرية غافلة عن المشكلات التى تعترى أداءنا الحقوقى، ولم تكن كذلك غافلة عن الاستهدافات التى تنال من الأوضاع الداخلية بسبب بعض مشكلات وقضايا حقوق الإنسان، ولذلك فقد ارتأت أن تشكل اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان فى العام 2018، وهى اللجنة التى يرأسها وزير الخارجية السيد سامح شكرى، والتى حظيت بجهود كبيرة بذلها فريق عمل بارع بقيادة السفير إيهاب جمال الدين، الذى خلفه السفير علاء رشدى، عقب توليه رئاسة البعثة المصرية لدى الأمم المتحدة فى جنيف.
بدأت اللجنة عملها برصد وتحليل الأوضاع الحقوقية العمومية فى البلاد، كما أجرت دراسات مقارنة لتلك الأوضاع مع دول أخرى تعكس تباينات واختلافات فى تطورها الحضارى والحقوقى، قبل أن تنظم ورشة وطنية كبيرة، تشاركت من خلالها مع مؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدنى، والنقابات المهنية والعمالية، وصولاً إلى الغرف التجارية وجمعيات رجال الأعمال والمراكز البحثية والشخصيات العامة والمثقفين.
كانت هذه عملية تنبنى على نهج التشاور من جانب، وتهدف إلى بناء التوافق من جانب آخر، وفى تلك الأثناء لعب المجلس القومى لحقوق الإنسان دوراً مهماً وجوهرياً؛ إذ يقف المجلس فى خط الدفاع الأول عن حقوق الإنسان المصرى، ويكرس طاقاته المتنوعة من أجل خدمة هذا الغرض، وهو الأمر الذى مكّنه من امتلاك رؤية واضحة لتطوير الحالة الحقوقية الوطنية، وهى رؤية وضعتها اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان فى الاعتبار، وأفادت منها كما أفادت من جميع مساهمات الأطراف الفاعلة فى هذا الملف المهم.
وعندما قررت اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان صياغة تلك الاستراتيجية رأت أن يتم هذا الأمر عبر مشاورات عميقة مع الأطراف المعنية، لتخلص إلى وثيقة تمثل توافقاً وتتمتع بالزخم والتأييد اللازمين لتفعيلها على النحو الأمثل.
لم يكن حفل إطلاق الاستراتيجية مجرد عمل احتفالى أو بروتوكولى على أى حال، ورغم أن هذا الإنجاز جدير بالاحتفال، فإن ذلك الحدث كان بمنزلة تعهد من الدولة بتبنى تلك الاستراتيجية والعمل على تفعيلها وإخضاع خطواتها المحددة بعناية للتقييم المستمر.
اتضح هذا فى تأكيد الرئيس على جوهرية حقوق الإنسان والتزام الدولة بصيانتها وتعزيزها، واتضح أيضاً فى تأكيد السفير إيهاب جمال الدين متابعة تنفيذ الاستراتيجية فى فترة تفعيلها التى تمتد لخمس سنوات.
وفى النقاش الذى جرى على هامش الاحتفال، وأداره الإعلامى المرموق الأستاذ شريف عامر، كان المفكر والإعلامى البارز الأستاذ إبراهيم عيسى حاضراً بمقارباته الجريئة والذكية فى آن، وهو طالب بوضوح بالنظر فى مسألة الحبس الاحتياطى، وما قد يستلزمه ذلك من تعديل قانون الإجراءات الجنائية، كما ألقى الضوء على مشكلة الاستخدام المسىء لاتهامات «ازدراء الأديان»، بشكل يلقى بظلال قاتمة على حرية الرأى والتعبير وحرية الضمير ويعوق محاولات تجديد الفكر والخطاب الدينيين، بما يتواءم مع المقاصد العليا للأديان.
وجرى الحديث أيضاً عن قانون الأحوال الشخصية، وضرورة إجراء بعض التعديلات التى يمكن من خلالها تعزيز حالة حقوق الإنسان، خصوصاً بالنسبة إلى المرأة المصرية التى ما زالت تحتاج المزيد من تركيز الجهود لإقرار حقوقها فى المساواة وعدم التمييز والكرامة والعيش الكريم.
إن تلك الاستراتيجية فى حاجة إلى تضافر جهود الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدنى من جانب، وتفهم ومساندة المواطنين أنفسهم من جانب آخر، لتحظى بما تستحقه من تفعيل وتطوير.
ولأن المجتمع المدنى سيكون له دور مهم فى تعزيز تلك الاستراتيجية، فقد أعلن الرئيس أن 2022 هو عام المجتمع المدنى، ويعنى هذا أن نتفاءل بإطلاق قدرات هذا القطاع.
يمثل إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان الخطوة الأولى فى طريق طويل، ورغم أنها تُعد خطوة غير مسبوقة وقفزة نوعية فى هذا المجال، فإن تفعيلها والالتزام بتعهداتها من تمام اعتبارها واكتمال أثرها. وفى هذا الصدد، علينا جميعاً أن نشارك وأن نراقب.