«طالبان» في مواجهة التنوع الأفغاني
فى بلاد متعددة الأعراق والهويات الدينية والأصول الإثنية واللغات، تتحول النظم الشمولية التى تقودها عرقية محددة إلى قمع منظم لا يطول أمده مهما كانت أساليب الإقصاء والقهر تجاه العرقيات الأخرى.
أفغانستان التى تستقطب اهتمام العالم بأسره الآن، تبدو مقبلة، حسب تصريحات المتحدث باسم حركة طالبان، على نظام مركزى صارم تسيطر عليه الحركة، مع وجود رمزى لشخصيات تمثل عرقيات وإثنيات أخرى.
مثل هذا النظام لن يعمر طويلاً، لأسباب شتى؛ منها اعتياد الولايات الأفغانية على قدر من اللامركزية حتى قبل الوجود العسكرى الأمريكى والدولى الذى استمر عقدين كاملين من الزمن، ومنها طبيعة أفغانستان الجغرافية التى تسودها المرتفعات الجبلية، والتى تمثل حدوداً طبيعية بين الولايات من جانب وبين توزع العرقيات المختلفة من جانب آخر.
فضلاً عن أن فترة العقدين الماضيين نشأ فيهما جيل لم يعرف «طالبان» من قبل، واعتاد قدراً من الحرية والتنوع وبعض مظاهر الحياة المدنية التى تتصادم مفرداتها مع مفردات الحياة البدائية التى تبشر بها «طالبان» واقع الأفغان ومستقبلهم.
الصراع بين المركزية «البشتونية» كعنوان لسيطرة «طالبان»، رغم كونها لا تمثل كل البشتون، وبين قدر من التنوع بمستوياته المختلفة، سيمثل بشكل أو بآخر جوهر الصراع السياسى وربما العسكرى فى المدى المنظور.
صحيح أن تصريحات ممثلى «طالبان» تبشر بالعفو والتسامح وعدم الانتقام من رموز النظام السابق والسماح بعمل المرأة وتعليمها، وتدعو الجميع إلى العمل معاً، لكنها فى الآن نفسه تضع أطراً فكرية وقيوداً أيديولوجية تعكس كل ما تؤمن به فى طريقة الحكم تحت عنوان الشريعة وفقاً لفهمها الخاص، والذى يتعارض فى كثير من مضامينه وتطبيقاته مع قناعات نسبة معتبرة من الأفغان أنفسهم، ومن كل الإثنيات التى تؤمن بالإسلام وبالشريعة بطريقة تخالف ما تروج له «طالبان».
فى الأيام القليلة الماضية نشأت بوادر حركة مقاومة مسلحة فى «وادى بنشير»، المشهور باستقلاليته وقدرته على صد هجوم قوات عسكرية عالية التدريب، ومجهزة بمعدات وطائرات حديثة، كما كان الحال إبان الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وأيضاً الحفاظ على الاستقلالية ذاتها فى فترة حكم «طالبان» الأولى من 1996 إلى 2001. حركة المقاومة المسلحة الناشئة هى خليط، كما أكد ذلك أحمد مسعود، ابن القائد التاريخى والرمز الأفغانى أحمد شاه مسعود، الذى اغتيل على أيدى تنظيم القاعدة قبل يومين من هجمات 11 سبتمبر الشهيرة فى الولايات المتحدة.
وكما يقال إن الابن هو إرث أبيه، فأحمد المتعلم فى ساند هيرسيت البريطانية والحاصل على شهادة عليا فى العلوم السياسية من إحدى كليات لندن، والذى عاد إلى بلده قبل عدة سنوات ليشارك فى بنائها تحت شعار أفغانستان لكل أبنائها، يمثل قيادة كاريزمية ناشئة، التف حوله جنود وضباط وقيادات من الجيش الأفغانى، أبرزهم وزير الدفاع باسم محمد، ورموز من حكومة أشرف غنى، أبرزهم نائبه أمرى صالح، انطلاقاً من بعدين مهمين؛ أولهما أن استيلاء «طالبان» على الحكم ليس شرعياً، وثانياً أنه لم تحدث مقاومة من الجيش نتيجة قرارات اتخذها الرئيس الهارب أشرف غنى، وأنه حان الوقت للمقاومة العسكرية وإثبات عدم شرعية حكم «طالبان».
المقاومة الناشئة على النحو السابق تختلط فيها إرادة العمل العسكرى إن لم يكن هناك مفر لمواجهة سطوة «طالبان» إن حاولت غزو الإقليم، حسب تعبير أحمد مسعود، وإرادة التفاوض، ولكن وفق مبادئ يتوجب أن تقبل بها «طالبان» وتجسدها فى سلوكها السياسى المرتقب، وأبرزها؛ لا للمركزية الطالبانية الصارمة، وعدم إقصاء أى عرقية أو إثنية أو هوية دينية من الحكم، واستبعاد الوسائل القهرية التى اعتادت عليها «طالبان» سنوات حكمها الأولى والغابرة إلى غير رجعة، وألا تكون أفغانستان مأوى لأى جماعة إرهابية.
«طالبان» من جانبها تطرح الأمر من زاوية الاستسلام الكامل للإقليم باعتبارها القوة المنتصرة، وإلا سيكون هناك عمل عسكرى، ولكنها تدرك أن أى اقتحام عسكرى لن يكون مضموناً لتحقيق هدفه الرئيسى باستسلام الإقليم، وفى حال فشله قد تتمدد جذوة المقاومة المسلحة إلى ولايات أخرى، وهو ما تخشاه «طالبان».
وهو ما يفسر قرارها بمحاصرة الإقليم من قبَل عدد كبير من مسلحيها، والاستمرار فى التفاوض، مع استعداد نسبى لتقديم تنازلات ليست محددة. وبالتالى فإن حالة «وادى بنشير» تمثل معضلة سياسية لـ«طالبان»، ومؤشراً مهماً لمعرفة قدر التغير فى أفكار وقناعات قيادة الحركة.
وإذا ما تمت تسوية ما تُلحق الإقليم بسيطرة «طالبان» سلمياً، ستظل هناك مشكلة العفو الفعلى عن رموز النظام السابق، وكيفية مشاركة الكوادر الفنية فى الإدارة المقبلة، والأهم التخلى التام عن نزعة الانتقام. وكلها أمور ستظل معلقة إلى أن تشكل «طالبان»، بعد حوارات غير معلن عنها أى شىء، نظامها السياسى الجديد.
عملياً تواجه حكومة «طالبان» المقبلة إشكالية الوجود العسكرى الأمريكى والغربى عموماً، الذى تحددت مهمته فى إجلاء الدبلوماسيين الغربيين وكل الأفغان الراغبين فى الهروب من البلاد بسبب خوفهم على حياتهم من الحكم الجديد، والمقدر عددهم بنحو 50 ألفاً وربما أكثر قليلاً، وهى مهمة تبدو المؤشرات الراهنة أنها تتطلب مزيداً من الوقت أبعد من نهاية أغسطس الجارى، الموعد الذى حدده الرئيس بايدن لإنهاء انسحاب آخر الجنود الأمريكيين من أفغانستان. بينما تُصر «طالبان» على أن لا تمديد محتملاً لهذا الانسحاب المرتقب، أياً كان وضع من يريد الرحيل ولم يتسنَّ له الرحيل.
بالقطع هناك اتصالات بين الجانبين، والمرجح أن تتشدد «طالبان» فى رفض أى تمديد قد تطالب به واشنطن، وهو جزء من عملية التفاوض نفسها. وقد ينتهى الأمر بقبول تمديد عملية الإجلاء لأسبوعين أو ربما شهر آخر.
تأخر الانسحاب الأمريكى والغربى سيوفر مزيداً من الوقت للمفاوضات والاتصالات التى تجرى بين الحركة وبين شخصيات سياسية وعسكرية فى الحكومة السابقة، وهذا هو الجانب الإيجابى، لكنه سيؤدى إلى تأخر تشكيل حكومة تمثل التنوع الأفغانى أو الجزء الأكبر منه، وفقاً لوعود «طالبان»، وهذا هو الجانب السلبى، فاستمرار البلاد دون إدارة تنفيذية ذات معايير محددة سيشكل بدوره مأزقاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً وفراغاً كبيراً، قد يغرى جماعات مسلحة ذات مرجعيات أيديولوجية مختلفة وعنيفة للقيام بعمليات تهز الاستقرار النسبى السائد فى العديد من الولايات الأفغانية.
وربما تنطلق إلى خارج الحدود، ما سيدفع دولاً عديدة إلى اعتبار «طالبان» مصدر تهديد يجب مجابهته بكل السبل. وهكذا فانتصار «طالبان» السهل ليس سوى مأزق كبير.