في أفغانستان.. وسؤال ماذا بعد؟

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

سؤال يشغل بال الكثيرين، خاصة حينما مثل تسارع الأحداث مأزقاً إضافياً على الإشكالية الأصلية، المعنية بمحاولة استشراف طبيعة المشهد الجديد ومساراته المحتملة. فليس توقع القادم بسهولة عقد مؤتمر صحفى مرتب بعناية، فإمكانية تصور «طالبان» فى ثوب وعقل جديد أمر بات يحمل قدراً كبيراً من الصعوبة. والعبور إلى الجانب المقابل للمشهد حيث الولايات المتحدة الطرف الآخر فى اتفاقية الخروج، يزداد الأمر صعوبة، لا سيما بعد العديد من الإشارات؛ أهمها الارتباك الأمريكى العميق فى إدارة مشهد خروجها وتوابعه التى لم تفرغ بعد، وقد مثل مؤتمر جو بايدن الذى عقد الجمعة الماضى النموذج الكاشف لهذا، حين خصص ما يقارب ثلثى الوقت المخصص فى الحديث عن تفاصيل عملية الإجلاء، واصفاً إياها بأكبر عملية فى التاريخ، وهذا بفرض صحته لا يمس جوهر القضية أو محاورها الرئيسية، وبدا هناك انحراف كبير تجاه تقزيم عملية الخروج الكلية، للحد الذى يقف فيه الرئيس الأمريكى كى يؤكد بما يوحى بالثقة وبلغة جسد تضفى أهمية استثنائية، عن هؤلاء الذين يسمح لهم بالمرور من نقاط التفتيش التى نصبها مقاتلو «طالبان» فى كل مكان، بمجرد إشهار جواز السفر الأمريكى لحامله ممن يريدون الوصول إلى مطار حامد كرزاى الدولى!!

فالذى يشغل البال بدرجة أهم هو أن الجانب الآخر من عملية الخروج التى استفاض فيها الرئيس الأمريكى والمروجون لها، تعنى ببساطة تسليم أفغانستان إلى حركة «طالبان» بكل ما تحمله هذه الخطوة من تداعيات. ويظل الإخفاق الاستخباراتى واللوجيستى الذى احتل شاشات وعقول الرأى العام العالمى، طوال أسبوع مضى، على فداحته، عرضاً جانبياً أولياً سيزول بمجرد الانتقال للمشهد التالى وهو الأهم. فمن أبرز أسئلة القادم تأتى ضبابية الرؤية السياسية لـ«طالبان» فيما يخص المستقبل، خاصة مع ميراث الطبعة الأولى التى استغرقت ما بين 1996 إلى 2001، الذى سيظل عالقاً بعنق النسخة الجديدة من الحركة بكل تطرفه وتبسيطه المخل لمفهوم الدولة وإدارة الحكم. وربما يكشف الاستحقاق الأولى المتعلق بـ«حكومة ممثلة لطوائف الشعب» كما تعهدت الحركة، حجم وأبعاد مصداقيتها ما بين خطابها الإعلامى التصالحى وعقيدة «المغالبة» والاستحواذ، التى تترجمها الوقائع على الأرض مثلما جرى فى حالة التفجير المبكر لمعركة علم الدولة، فقد كان لافتاً انشغال الحركة واستهدافها لإنزال علم الدولة من كثير من المؤسسات والمناطق، خاصة فى كابول، ورفع علم الحركة مكانه. وهو ما جعل العلم الرسمى يظهر بشكل مكثف ومتعمد فى جميع التظاهرات التى خرجت للتنديد بما جرى، ليكتسب العلم الرسمى رمزية التمسك بما تحقق خلال الأعوام الماضية. إضفاء هذه الأهمية من قبَل الحركة على تفصيلة تبدو صغيرة على رمزيتها، استدعت سريعاً ارتداداً مقابلاً، وهذا يلفت الانتباه نحو الأشمل من قضايا الدولة القادمة الرئيسية، فقد يمثل دستور 2005 الذى أعلنته «طالبان» حينها نموذجاً لاستقطاب حاد فى حال جرى اعتماده على وضعه الحالى، لذلك وعدت الحركة خلال المفاوضات بتنقيحه كى تتجاوز تفصيله على مقياس المسلمين السنة المنتمين لـ«المذهب الحنفى»، مع الإقصاء الكامل لباقى أتباع الطوائف والمذاهب الأخرى.

من المعضلات التى أثارت قلقاً بالغاً وإن ظل مكتوماً كغيره تحت سطوة صور عملية الخروج، تتعلق بعملية «دمج عكسى» جرت وتجرى الآن بتسارع مثير، فالمستقر فى عمليات الانتقال السياسى أن هناك مفاهيم وأطروحات وضعت لتعالج عملية دمج المكونات المسلحة «ميليشيات، تنظيمات، حركات... إلخ» فى جيش الدولة أو الأجهزة الأمنية، والنماذج الأقرب فى ذلك حالتا العراق وليبيا على سبيل المثال، وإن ظلت كلتاهما قيد التجريب أو فى مراحلها الأولى. لكن الحالة الأفغانية تواجه واقعاً معكوساً يتعلق باستحواذ الـ«حركة» على جيش الدولة الافتراضى. أياً ما كان من تحفظات الكثيرين على عملية بناء الجيش الوطنى الأفغانى، ومدى النجاح الأمريكى فى بناء مكون عسكرى يمتلك العقيدة القتالية والانضباط المؤسسى، إلا أنه يظل يمثل جيش الدولة الذى خرج للنور ومارس مهام فعلية على أرض أفغانستان. لذلك ومع إضافة عملية استيلاء سهلة على كم ضخم من الأسلحة الأمريكية، تشمل مدرعات وطائرات وغيرها من منظومات التسلح النوعية التى دخلت رصيد «طالبان»، نصبح أمام حالة «إرث» ملغم لا يمتلك أحد حتى اللحظة إجابة عن تداعياته، وتأثيره على معادلات توازن القوى داخل طيات مستقبل نتساءل عن مكوناته. الجزء المعلوم من هذا الملف حتى الآن، وهو محدود للغاية، أن وحدات هذا الجيش ضمت وسط صفوفها كماً هائلاً من عناصر تحمل ولاءً مزدوجاً، وأن هؤلاء بإلقائهم السلاح طواعية فى مرحلة ابتلاع السيطرة على الولايات الأفغانية، وانتقالهم السلس لتأييد الحركة مثل ضربة تسارع أربكت حسابات التوقيت الأمريكية.

تبقى معضلة لا تقل خطورة وغموضاً تتعلق بمستقبل وحدة التراب الأفغانى، وشبح الحرب الأهلية على الأقل رابض فى الشمال الأفغانى، الذى أعلن منذ اللحظة الأولى أنه خارج سياق تلك الاتفاقات ورغبات التمرير حتى الآن، وربما تخرج مناطق أخرى ليكون لها رأى آخر بعد أن تعاين طبيعة الاستحواذ الذى تقوم به «طالبان». فبنفس حدة التسارع الذى تقوم به الحركة فى العاصمة كابول، تتشكل حول إقليم «بانجشير» لجان مقاومة مسلحة لحركة طالبان تحت قيادة «أحمد شاه مسعود»، الابن، الذى يمتلك ما لا يقل عن (6000 مقاتل) أغلبهم من عرقية «الطاجيك» الأعداء التاريخيين لطالبان «البشتون». والأخيرة أعلنت، الأحد الماضى، شن هجوم واسع النطاق على الإقليم الذى لم يعلن انضواءه بعد تحت راية الحركة، الإعلان فى حد ذاته يرسم ملامح قاتمة لوحدة أراضى الدولة، فالمكون الشمالى صعب المراس عرقياً وجغرافياً، ولديه تحالفات قوية مع الكثير من دول الجوار، ومؤخراً صار قبلة لعناصر الجيش التى لم تجد لها ملاذاً بعد استسلام أقرانهم، فضلاً عن رافضى حكم الـ«طالبان». وهذه «خلطة» نموذجية ليس لاندلاع حرب أهلية فحسب، بل أبعد باتجاه تقسيم جغرافى وعرقى، سيخط لنفسه سريعاً طريقاً وعراً، مثل العديد من طرق أفغانستان الأكثر وعورة.