قرابين للإله الشعر.. تطوير التركيب لتجديد روح القصيدة

كتب: حسن معروف

قرابين للإله الشعر.. تطوير التركيب لتجديد روح القصيدة

قرابين للإله الشعر.. تطوير التركيب لتجديد روح القصيدة

- مدخل إلى الإنسان: إنه دائما التميّز، شعور يلم به من بداية تشكل وعيه، في الرأي، الفكرة، الرؤية، والتكوين، يشعر دائما ولا يعبر دوما، يحمل بين جوانحه اختلافا ما عن بيئته وروادها وعبقها، شدّ وجذب بين المختلف والمختلف عنه، يدفعه للتميز. ربما تختلف البدايات دوما، الألوان والأماكن والحوادث والمشقة والمحن والمعاناة، أمور لا تتطابق أبدا، بل تتشابه دوما، هنا أو هناك، في الساحل في الصحراء، المبدع مبدع، لا يشترط فيه منذ أن يفتح عينيه إلى الدنيا سوى أن يكون متميزا، وتتوالى الإشارات. يشعر دائما بروح التميز تلفح كيانه في كل منزل، كل اختلاف مع المعاش واليومي والمفروض، والواجب يقوده إلى حقيقة واحدة: أن الرفض جوهر لا يدركه المجادلون، يعييه الجدل كثيرا، ولا يزيده إلا إصرارا على رفضه، تعتبر الموضوعية لديه نتاج بحث وتأمل واستنتاج لا مقدمة دبلوماسية يستخلص بها من محاوريه نظرة إعجاب. يستبيح قتل المعاش حتى يخلق افتراضه ويطرحه، يفكر ويفكر ويعبر حتى يعرفه الناس. ـ نقطة.. ومن أول الشعر: اعتمد الشاعر الأول في استخلاصه لمضمونه على الحكمة، التي يتخير لها اللفظ "الشريف"، وعول اللاحقون على التأمل واستعمال العقل في كل تفاصيل قصائدهم، التي باتت تبنى على طبقات يتفق بعضها مع بعض، وصار العقل قيدا، والقيد شرطا، والشرط فنا، وظل أجيال يعقدون قيودا حول فنونهم، وأسهمت الدربة على التقييد في إخراج نماذج لها قوتها وبأسها في اللفظ والمعنى، وسمحت لهم بالابتكار والتحايل لغويا، وعلى مستوى المضمون، حتى أنجزوا مع مر الوقت كمًّا من السابقات الشعرية والأدبية عموما، وصنعوا تميزهم بتوظيف القيود. المراد، ليس القيد في الشعر معجزا، بل لا يحيا الشعر بغير قيود، هو فن التحايل الأول الذي كسر به العربي رتابة الخطابة، وفن التحايل الأخير الذي يحيا به العربي في واقع أعمته الرتابة، أينما تكون القيود يبقى الشعر فنا رائدا، يتميز متقنه به وفيه، يحرك أشياء اليوم والبيئة كما تحرك شيئا ما بداخله لا كيفما تحرك، يستقبل الرتابة والفشل والاضطرار والجبر والقهر وينجب الشعر وضاء الوقع في المحيط القريب وعلى امتداد الزمن. أما للشاعر أن يتميز دون أعذار. أما للشعر أن ينمو من ماء الحياة المسموم. أما لهذا الفن الاستثنائي أن يصنع شيئا استثنائيا يطابق مقتضى الحال؟. انفض من انفض عن اللغة وهي في غنى عنهم، وأقبل من اشتاق حق الاشتياق، جذبها من نواصيها الثلاث، واستكشف ما بها من كنوز، رتب رحلته كأي سائح حول العالم تدفعه شهوة المعرفة المحاطة بغريزة التميّز، سعى لها من جيل التكنولوجيا من ظنت أنهم فقدوا هويتهم فوق هذا الكم من الأزرار ووسط هذا الصخب الضوئي، لمعت في قلوبهم وعقولهم وجاءوا بها إلى الحياة من جديد. الغريب أن الأحداث تلقي لنا ببعض بواقي البشر ممن يتهمون العربية وفنونها بالضعف والفشل حينا، وبضرورة التطوير الملحة أحيانا، وهؤلاء إما متخصصون في اللغة، وهم بالتالي أول المقصرين في حق أمانة حملوها ثم لم يحملوها، وإما متذوقون يقفون ما ليس لهم به علم، ويتصدون بالنقد لما لا قبل لهم به في الفهم العميق، وغاية الأمر لديهم حب إبداء الرأي دون امتلاك الأدوات، لكن الله قيد للغة رجالا، ولفنونها عشاقا لا يخلفون موعدا، فأخذت العربية منذ 13 عاما إلى الآن تتلقى بذورا في الميادين كافة، ويسقيها وضع سريع الاضطراب، فأنضجت لنا من حراسها من لن يترك الأرض دون راية للغة مرفوعة، ومن عشاقها من لا يترك جديدا إلا وطرقه، وشق لها طريقا ظن المتكاسلون عنها أنه لن يشق، وحمل تميزها على عاتقه جيل من خيرة شعراء الفصحى، الذين تميزوا فيها وبها. ـ المخلوق الأكثر تطورا لم يعشق شاعر شعره، بل عشق اللغة فيه، وعشق الظهور به والاتكاء عليه، ولع بالتعبير أكثر مما ولع بالشعر ذاته، ألهمت الأجزاء راعيها فأخذ يهيم بها جزءا فجزءا، متناسيا الكائن الحي الذي أنجبه، فكلام الخاطر صوته، وتشكيل الصورة رداؤه، وتنهيد الأحرف أنفاسه التي تسخن حينا وتبرد حينا تطول في الحزن وتقصر في الفرح، وإيقاع الوزن صوت قدميه الذي لا يخطئه أحد من أبنائه إذا سمعه في أي مكان وزمان. لكن الشاعر اليوم أغنى، يطرح ما يقربه من الخلود، ويبارك الشعر في شعره، ويهاجم بالتمكن والقريحة الرائقة من ينظمون من ضعفهم مبادئ شعرية تغط في ظلمات الجهل بالفن الأرقى، حملته إشارات التميز إلى أن حمل معه دلائل التطوير الذي ينشده جيل ناء به طول التجريب، مع لغة سهلة العشق صعبة المراس، وفن واضح المأتى عميق الغور، رفض في شعره الفصيح ابتذال الضعاف في اللغة، أو تقعر من تحولت اللغة لديهم من وسيلة إلى غاية في الكتابة، كمن ينشرون تُحفَهم المدخرة ليباهون بها من لم يتسن لهم الاقتناء، حيث لا فائدة من ممارسات هؤلاء المرضى بـ"الزهو" سوى حسرة من لا يملك وإشادة من لم يدرك، وتعجب من أرهقته العلاقات بين الأحرف أكثر ما أرقه "من أين يأتي الزهو أو كيف أنتزع الإعجاب؟"، وهنا ينفض الشاعر اليوم عن نفسه الإفراط أو التفريط، ويأتي بفضيلة جديدة في الفصحى وشعرها، سهولة المأتى ووعورة المغزى. لا فرق بين عهدين من الشعر، بل إضافة وروح. ترتد بالشاعر إلى المعنى الأصلي والوحيد للشعر، أن يدعو الناس للعبور على جسده مقابل أن يغذوه بأحاديثهم، أن يصنع من دمه "شايا" للأصدقاء، لا يريد الشعر من شاعره سوى تركيبة مثل تلك، فالمسافة بين الدم (وهو سائل الحياة)، وبين الشاي (وهو سائل السلوى هنا) هي الدلالة الثالثة، مراد الشاعر الذي توسل إليه بتركيب المفارقة بين الدلالتين، والتي تخالف أصل الوضع فيهما، وهي "التضحية النسبية"، أي يستعد للتضحية، من وجهة نظره، حتى لو صنع لأصدقائه من حياته سلوى، واستوفى التركيب، بعد إجراء المفارقة عليه، جميع شروط الإبداع، من بساطة التركيب وقوة المضمون وسهولة التوصيل، دون عجز أو احتيال، أو حتى تعمد إلى إبهار يحقق الزهو لا الشعر، ويخدم الـ"أنا" دون ذلك المخلوق الحاضر بقوة بين القصائد "الشعر"، وإن صب المعنى في جهة تقريب القربان لهذا الإله الشعر، أنجى الشاعر عن إسفاف مراعاة المتلقي، ووضع هامته في مصاف "الشعراء". يزيد لا ينقص، يضيف لا يختزل، يدافع عن لغته التي تسع كل شيء، وتحتمل مع قيودها ما لا تحتمله نظيراتها مع تخففها، من سراديب تجريبية يجد من يجترأ على سلوكها كنوزا تركها الأقدمون، وبلدانا خلقت من قديم الأزل وتنتظر فاتحها، الذي لا يهاب التجرؤ على التركيب، أو يركن إلى المستهلك من أجل تيسير المشقة على متلق لا يجتهد بطبعه، وعندما يصبح "الوقت كذب" فليس معناه عند المتلقي سوى أن الوقت كذبة لا يجبب أن نصدقها، ويتطوع أحد أباطرة النقد الهش في زماننا المتخم بالزيف والغش ويؤكد أن الشاعر "أخطأه التركيب" أو أنه "خانه التعبير"، دون أن يلحظ كليهما ومن يأتي بعدهما أنه بالفعل يوجد "شاعر" حول "الظرف والمظروف" إلى "مبتدأ وخبر"، رحبت بمبادرته اللغة، وسمحت له باستخدام كنزها المدفون في "التحويل بين التراكيب الخبرية" حتى تتسع عن مداها، وتخرج من المألوف ذهنيا إلى الاستمتاع بالتأمل، والتعجب من طرافة المأتى وحسن الابتكار وبراعة الحس بها، دون أن يفرد المطولات في "ضرورة" و"واجب" و"حتمية" تطويرها، بل هو تركيب، بل هو الشعر.