لبنان فى مفترق طرق خطير
اليوم الأربعاء تجتمع ثلاثة أحداث مهمة خاصة بلبنان، أولها مرور عام كامل على الانفجار المروع لمرفأ بيروت، دون أى تقدم فى مسار التحقيقات القضائية الخاصة بتحديد المسئولية الجنائية لمن يثبت أدوار لهم فى التجاهل أو التغطية على تخزين كمية هائلة من مادة الأمونيوم شديدة الانفجار لمدة سبع سنوات. وهو تعثر ناتج عن سيادة منطق الحصانة والولاءات الحزبية وتجاهل القانون. والوجه الآخر هو زيادة درجة احتقان ضحايا الانفجار وهم بالآلاف ما قد يدفع بعضهم إلى تحركات عدائية عنيفة تزيد من حالة التوتر العام السائدة فى لبنان ككل.
وثانيها عقد الاجتماع الدولى الافتراضى لتوفير مساعدات عاجلة للبنان تقدر بنحو 325 مليون دولار، برئاسة مشتركة بين الرئيس الفرنسى «ماكرون» وأمين عام الأمم المتحدة، ومشاركة عدد من قيادات العالم، منهم الرئيس السيسى وملك الأردن عبدالله، كما يشارك الرئيس بايدن بكلمة تعكس سياسة بلاده نحو تطورات لبنان الداخلية.
الحدث الثالث يتعلق بالتداعيات التى نجمت عن عملية الثأر (وفقاً لبيان عائلات عرب المسلخ المقيمين فى بلدة خلدة جنوب بيروت وهم من السُنة) التى استهدفت عنصراً قيادياً فى حزب الله وعدداً من أفراد موكبه، كان متهماً بقتل أحد أطفال عرب المسلخ قبل عام. وهو الثأر الذى دفع الجيش اللبنانى للانتشار فى المنطقة لتطويق أى رد فعل انتقامى من قبل مناصرين لحزب الله، واعتقال الأفراد الذين أطلقوا النار على موكب القيادى الشيعى، ومن ثم منع حدوث فتنة ومواجهات مسلحة موسعة قد تصوَّر باعتبارها مواجهة سنية شيعية.
يضاف إلى هذه الأحداث الثلاثة المتزامنة فى وقت واحد استمرار تعثر عملية تشكيل حكومة لبنانية برئاسة نجيب ميقاتى، الذى تم تكليفه قبل أقل من عشرة أيام لإنجاز هذه المهمة بعد اعتذار سعد الحريرى بعد فشل محاولاته لتشكيل حكومة طوال عشرة أشهر مضت. ويأتى التعثر فى الحالتين نتيجة خلافات بين رؤية الرئيس عون لتوزيع الحقائب بين الطوائف، وتمسكه بتحديد وزير الداخلية، فى وقت يبحث فيه نجيب ميقاتى المكلف عن صيغة وزارية قوامها عناصر اختصاصية ومستقلة، لاسيما فى الوزارات التى ستشرف على الانتخابات اللبنانية المقبلة فى مارس المقبل، خاصة الداخلية والعدل.
القاسم المشترك بين هذه التطورات المهمة هو أزمة النظام السياسى اللبنانى ووصوله إلى مرحلة باتت مؤسسات الدولة محكومة بالولاءات الطائفية والمذهبية وليست مصالح الدولة ولا مصالح اللبنانيين، الذين بات أكثر من 60 فى المائة منهم تحت خط الفقر نتيجة انهيار العملة اللبنانية وندرة المواد الغذائية والدواء والطاقة والكهرباء. صحيح أن عنصر الولاءات الطائفية هو السائد فى تاريخ لبنان، لاسيما فى توزيع الرئاسات الثلاث، وفى عضوية البرلمان وفى القيادات الإدارية. وصحيح أيضاً أن لبنان كان يجد دعماً مكثفاً من دول كبرى وعربية رئيسية، ساعده على تجاوز الكثير من الأزمات الداخلية، وأسهم فى استمرار الليرة اللبنانية متماسكة مقابل العملات الأجنبية لاسيما الدولار. وصحيح ثالثاً أن النخبة اللبنانية فى مراحل سابقة وبالرغم من الخلافات الشديدة بينها كانت تلجأ إلى المساومات والحلول التوافقية قدر الإمكان.
وعبر مقارنة سريعة بين أوضاع لبنان الراهنة لاسيما فى العامين الأخيرين، وبين أوضاعه ما قبل هذين العامين الأخيرين، تبدو النخبة اللبنانية المتحكمة فى القرار اللبنانى وكأنها غير معنية بالحفاظ لا على البلد ولا على اللبنانيين أنفسهم، وأصبحت أكثر طائفية ومذهبية، وأقصر نظراً مما سبق، رغم ما يحمله هذا التحول من مخاطر شديدة على فكرة الدولة اللبنانية نفسها. وليس غريباً أن يطرح البعض الآن وإن على استحياء أن لبنان بحاجة إلى نظام سياسى فيدرالى بدلاً من نظامه الطائفى الراهن، وأن تلك الفيدرالية ربما تقدم حلولاً سياسية واقتصادية ومجتمعية أفضل مما يمكن أن تقدمه أية حكومة فى ظل التدهور السياسى والأمنى الهائل الذى يعيشه لبنان بالفعل. ولا شك أن فيدرالية فى ظل هذه الأوضاع ستقود مباشرة إلى تفتيت لبنان.
مثل هذه الأفكار تعكس حالة التشرذم السياسى وتكشف مدى التدهور الذى وصلت إليه علاقات القوى السياسية اللبنانية فيما بينها، لا سيما التربص المتبادل، وغياب الثقة وتبادل الاتهامات، والخضوع لمنطق المؤامرات، وتفضيل مصلحة الطائفة على المصالح الأساسية لاستمرار لبنان، مما أفقده القدرة على حل مشكلاته بنفسه. وتتحمل مؤسسة الرئاسة المسئولية الأكبر فى إخراج لبنان من حالة التشظى السياسى والانهيار الاقتصادى والاجتماعى الراهنة، ومعروف أن تمسك الرئيس عون بأن تكون التشكيلة الحكومية متماهية تماماً مع رؤيته للأمور بدون أى توافق مع رؤية رئيس الوزراء المكلف، كما حدث مع سعد الحريرى طوال العام المنصرم، كان سبباً رئيسياً فى عدم تشكيل حكومة تكون مسئولة أمام المواطنين اللبنانيين وأمام البرلمان، ولديها مساحة من مرونة التحرك الداخلى والخارجى لجذب الدعم الدولى وعدم التورط فى مغامرات خارجية من أى نوع، ولديها القدرة على وضع برنامج حكومى يوقف الانهيارات الجارية ويمنح الأمل للبنان واللبنانيين.
تشكيل الحكومة التى تمناها الرئيس المكلف نجيب ميقاتى قبل موعد الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت المأساوى، أصبح حلماً غير ذى معنى، كما أن الدعم الدولى الذى تقوده فرنسا وبمشاركة دول عربية كمصر والسعودية والأردن والإمارات، مشروط بوجود حكومة محددة الملامح وأن يغلب عليها العناصر الاختصاصية الكفء، وفى كل الأحوال يكون لديها تصورات واضحة ومحددة لمعالجة الأزمات الراهنة. وبالطبع فإن تعثر تشكيل الحكومة يجعل عملية توفير مساعدات ذات طابع تنموى مسألة مشكوكاً فيها. وبالتالى لن تجد المساعدات العاجلة التى قد يتم الاتفاق عليها إلا مساراً واحداً من خلال منظمات غير حكومية وبعيداً عن رقابة الدولة، وهو أمر وإن وفّر بعض الدعم لفقراء لبنان مؤقتاً، فإنه يجسد صورة شديدة السلبية عن ترهل الدولة ويثبت فشلها. وفى المحصلة تزداد الضغوط المجتمعية والسياسية من الداخل نفسه، ومعها زيادة فرص الانفجار الداخلى، قد تبدأ بمواجهات فرعية من قبيل حوادث الثأر كالتى حدثت فى خلدة، وتنتهى بحرب أهلية تستخدم فيها أقوى الأسلحة، وغالباً ستكون أشد من حرب 1975 إلى 1989.
لا سبيل أمام لبنان واللبنانيين وتحديداً النخبة المسيطرة من كل الطوائف سوى التحلى بقدر من الرشد السياسى، والممزوج بقدر معتبر من المرونة والتنازلات المتبادلة والخروج من شرنقة العناد السياسى والتغطية على الفشل بفشل آخر، والتمسك بالدولة وتفعيل مؤسساتها، وإعطائها الأولوية على المصالح الصغيرة التى تفتح أبواب الجحيم على الجميع.