فشلت حركة النهضة التونسية المنتسبة تاريخياً لجماعة الإخوان فى التحول من استراتيجية الصدام الشامل إلى سياسة التعايش، وفى تطبيق مبدأ المشاركة لا المغالبة الذى أعلنته مراراً، كما فى تجربة الحكم.وثبت بما لا يدع مجالاً للشك فى انقطاعها مثل إخوان مصر عن المجتمع رغم فوزها فى كثير من الاستحقاقات التنظيمية، واستغلالها من قبل قوى إقليمية.أدارت «النهضة» عملها السياسى فى تونس بنفس طريقتها فى إدارة التنظيم، وفشلت فى التحول من تنظيم لدولة، وتعالت على المجتمع، ولم تنزل إليه إلا لتستخدمه لتحقيق طموحاتها السياسية، بنفس طريقة الجماعة فى مصر، التى كانت مصيبتها أكبر؛ حيث غرقت فى جملة من الأخطاء الكارثية، ومنها قضية الهوية، ومسكونيتها بقصة الحكام وتكفيرهم والشريعة الإسلامية، وبدا بوضوح أن أمامهم سنوات طوالاً حتى يصبحوا جزءاً من المجتمع ويتحولوا اجتماعياً وثقافياً إلى مقاصد الشريعة العامة، والبحث فى حلول لمشكلات المواطنين، والعمل داخل مشروع لخدمة شئونهم، لا مشروع الهوية وخطاب الخلافة، أو ما يطلق عليه الانتقال من الطور الاحتجاجى إلى طور البناء والمشاركة السياسية، وحتى هذه اللحظة ما زالوا فى غيّهم القديم، حتى اقترب أنفهم من الحائط، ولم يبق سوى أصابع قليلة قبل أن تتحطم وجوههم.وبالنظر إلى أهم أخطاء حركة النهضة فهى تلك الاختلافات الواضحة بين العمود الفقرى لها من العناصر الشبابية والقيادات العليا، والخلل بين جناحين داخل الحركة، هما السرى والعلنى، والمعركة الكبيرة التى أداروها لأخونة الدولة، أو ما أطلقوا عليه (خلق النخب).إن المعركة الحقيقية هى أن الدولة قبل الجماعة، ضد التخلف والفرقة والإرهاب، وإثبات أننا وحدة صماء، ولن تقسمنا انتماءاتنا، وأن نجابه عصرنا كى نكون متجددين، وأن نتجه إلى الدسترة، أى عبر الاندراج ضمن الثقافة السياسية فى البلاد، والتخلى عن حلم إقامة الدولة الإسلامية لصالح العمل ضمن إطار الثقافة السياسية الحالية، أى الخاضعة لضوابط القانون.وكذا الفصل الحقيقى بين الدينى والسياسى، وهذا الفصل لا يوجد فى عقول تلك الحركات بما فيها النهضة، وهو لديها كان طريقة توظيفية إجرائية للعمل، بعيداً عن طريق الاندماج والممارسة السياسية الشفافة والمتوازنة التى تعتمد على الكفاءة والخبرات وليس ادعاء الطهر والنقاء والورع والقدسية.إن انتماء تلك الحركة للرافد الإخوانى المصرى، والجماعة الإسلامية الباكستانية، وتنظيم الخومينى بإيران جعلها غارقة فى جملة من الإشكالات بين الفقهى والسياسى، والسرى والعلنى، الدولة واللا دولة، وغيرها، لذا فقد رفضها غالبية الشعب التونسى، لأنها حينما تتنافس سياسياً فإنها فى هذه الحالة تستخدم أدوات غير الموجودة مع باقى الأحزاب السياسية وهى منطلق الدين الذى توظفه سياسياً.«النهضة» وغيرها من الجماعات أفرزت تجربتها النهائية أنه يتم توظيفها فى مخططات دولية وإقليمية، وهو ما لم يجعلها تتحول من استراتيجية الصدام الشامل مع الأنظمة إلى سياسة التعايش أو التكيّف الإيجابى، وكانت تجربتها فى الحكم قد ساهمت فى كشف حقيقتها عملياً، ومنها أنها مقطوعة عن المجتمع رغم فوزها فى استحقاقات انتخابية بفعل تنظيمها السرى على الأرض.أنا أعتقد أن ما جرى فى تونس للنهضة هو مؤشر قوى على انهزام الإسلام السياسى كله فى المنطقة، وإن ذلك سيؤدى إلى تغييرات جذرية كبيرة، حتى لو تجاوزت تلك الأزمة فإن ما جرى قبلها غير ما بعدها، وبرأيى فإن هذه هى بداية النهاية للتنظيمات الصارمة الشبكية والهرمية الكبرى، إلى تنظيمات تحاول التماهى مع المجتمع، أو بمعنى أدق انتهاء عصر الجماعات التى نعرفها.