روسيا بوتين وتحدى الهيمنة الغربية
الاستهداف الغربى لروسيا حقيقة تبدو أزلية. سياسات الضغط الغربى لها أهدافها الواضحة لروسيا كما للعالم بأسره، وهى سياسات متنوعة تشمل العقوبات الاقتصادية والتشهير السياسى والدعائى، إضافة إلى توسع حلف الناتو لمواجهة روسيا وضمه بلداً تلو آخر حتى حدودها، بما يمثله من عملية حصار حقيقى تستهدف نزع الهيبة، والحد من القدرات الروسية على الحركة الدولية أبعد من محيطها الإقليمى المباشر.
روسيا تدرك تماماً أن السياسات الغربية ليس لها سقف محدد، بل إن الاتفاقات والتفاهمات السابقة التى توصل إليها الغرب مع موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وأبرزها عدم الاقتراب من الحدود المباشرة لروسيا، ووقف كل أشكال الضغط السياسى والاقتصادى، قد تم التراجع عنها جملة وتفصيلاً، بل بدأت عملية شيطنة ممنهجة لروسيا وقيادتها وكل تحركاتها، فضلاً عن إجراء مناورات جوية بحرية للناتو بالأسلحة النووية فى البحر الأسود.
الجديد فى الإدراك الروسى لحجم الضغوط الغربية بهدف تفكيك البلاد ظهر فى وثيقة الاستراتيجية الروسية الجديدة التى أعلن عنها السبت الماضى بعد توقيعها من الرئيس بوتين، وكأى وثيقة استراتيجية تحدد تهديدات الأمن القومى الحالية والمحتملة، فهى تعكس رؤية واضعى تلك الوثيقة للواقع واحتمالاته وتضع أسساً وموجهات لمؤسسات الدولة للحفاظ على تماسك المجتمع من ناحية، وزيادة الفاعلية المجتمعية على احتواء التهديدات الخارجية من ناحية أخرى، مع التوجيه إلى إبداع وسائل جديدة وفقاً لطبيعة التهديدات الُمدركة. وأحد أبعاد هذه الوثائق الاستراتيجية لاسيما التى تقرها دول كبرى ورئيسية فى النظام الدولى، أنها تعطى للعالم بأسره لمحة حول المواجهات المحتملة بين الكبار، وقضاياها واحتمالات تطورها وتداعياتها على باقى الدول والنظام الدولى ككل. ومن هنا فهى تهمنا نحن، لاسيما أن منطقتنا العربية ومحيطها الشرق أوسطى الأكبر، هى تاريخياً واحدة من مجالات التنافس الرئيسية بين القوى الكبرى، وكثيراً ما أصابتنا نتائج غير مرغوبة.
تبدو الوثيقة الاستراتيجية الروسية الجديدة شاملة لنوعين من القضايا المتعلقة بالأمن القومى؛ أولهما قسم تقليدى يتعلق مباشرة بالحفاظ على الأمن القومى كحماية وحدة أراضى البلاد ومواردها ورد العدوان، وتثبيت ودعم مصادر القوة الذاتية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. وهو قسم يُعد امتداداً لما ورد فى الوثائق السابقة، وينظر إليه كالتزامات للدولة ومؤسساتها غير قابلة للتراجع أو المساومة أو التغافل عنها. كتقوية القدرات العسكرية وتطوير المجالات التى توفر ميزات نسبية كامتلاك الأسلحة النووية وصناعة الأسلحة الحديثة، والأهم حسب الوثيقة «تحديد المخاطر والتهديدات العسكرية الحالية والمحتملة فى الوقت المناسب، وتحسين نظام التخطيط العسكرى، والحفاظ على إمكانات الردع النووى عند مستوى كافٍ».
أما القسم الثانى فهو يمكن وصفه بالمُهددات الحديثة أو فوق التقليدية، وهى جملة من القضايا شملت تهديدات بيئية، وأخرى تهديدات تتعلق بتفكيك قيم المجتمع كمدخل لتدمير البلاد، وثالثة ترتبط بالتحولات الهائلة فى تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعى. وبتأمل هذه المُهددات نجد أن تأثيراتها لاسيما السلبية لا تتوقف عند روسيا وحسب، بل تمتد لتؤثر وإن بدرجات مختلفة على العالم بأسره.
التهديدات البيئية كارتفاع درجات الحرارة والاحتباس الحرارى والتغير المناخى والتصحر وذوبان الثلج فى القطبين الشمالى والجنوبى، ليست محل جدال، وإنما الجدل الدولى يقع فى دائرة المسئوليات التى تقوم بها الدول للحد من تأثيرات هذه الظواهر المناخية العاتية. ووفقاً للرؤية الروسية فتلتزم مؤسسات الدولة بالعمل على الحد من انبعاثات ثانى أوكسيد الكربون، وهو المسبب الرئيسى فى ارتفاع درجات الحرارة فى كوكبنا، مع دعم التحول إلى الاقتصاد الأخضر، وكلاهما يتطلب تعديلات عميقة فى تكنولوجيا التصنيع بشكل عام، والالتزام بمعايير بيئية مستدامة. والفكرة هنا تتعلق أساساً بتطوير الاقتصاد الروسى ككل، ليصبح اقتصاداً صديقاً للبيئة، بغض النظر عما سيفعله الآخرون سواء فى الغرب أو فى الصين وباقى المجتمعات الصناعية الكبرى الأكثر تلويثاً لبيئة الأرض ومناخها.
أما المهددات الآتية من الغرب بهدف تفكيك منظومة القيم المجتمعية الروسية، وتدمير المجتمع وتشكيل ثقافة مجتمع وأفراد منزوعى الانتماء الوطنى، فقد نالت جزءاً مهماً من الشرح والتفسير، وعكست بشكل عام التحذيرات التى لم يتوقف الرئيس بوتين عن إطلاقها منذ مدة طويلة بشأن أهداف الأيديولوجية الليبرالية الغربية التى تهدف إلى تغيير المعايير الأخلاقية لدى الروس، ولدى مجتمعات أخرى عديدة، وإطلاق حريات فردية بدون أى روادع دينية أو أخلاقية أو وطنية، وبما يؤدى -وفقاً لقناعة الرئيس بوتين- إلى تفكك المجتمع ومن ثم سهولة تدميره من الداخل، وبالتالى تسهيل مهمة السيطرة الغربية عليه.
ووفقاً للوثيقة الاستراتيجية فإن قيم الولايات المتحدة وكذلك الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الأجنبية غير التجارية التى ترفع شعارات حقوق الإنسان، «تستهدف القيم الفكرية والأخلاقية والثقافية الروسية التقليدية، وتهدد السيادة الثقافية الروسية»، ما يعنى ضرورة الوقوف بقوة وحزم أمام هذه النوعية من الهجمات التى تعمل أيضاً على «تشكيل عناصر تخريبية داخل روسيا وخارجها، فضلاً عن تشويه المعلومات ومحاولات التخريب النفسى والتغريب للثقافة وتزوير التاريخ الروسى والعالمى وتدمير الذاكرة، والتحريض على النزاعات العرقية والأديان، وإضعاف تكوين الدولة»، وفقاً للوثيقة، التى أشارت أيضاً إلى أنه «يتم جعل حرية الفرد مطلقة، ويتم تنفيذ دعاية نشطة للإباحية والفجور والأنانية، ويتم زرع عبادة العنف والاستهلاك والمتعة».
والواضح تماماً أن روسيا باتت على قناعة تامة بأن تطور أساليب التهديد الغربى يتطلب أيضاً آليات مختلفة، وأهمها تحصين الداخل من خلال التمسك الشديد بمنظومة القيم التقليدية، فضلاً عن حاجة المجتمع المتزايدة إلى «تحسين كفاءة الإدارة العامة، وضمان العدالة الاجتماعية، وتعزيز مكافحة الفساد وإساءة استخدام أموال الميزانية وممتلكات الدولة».
كما أن تأثير وباء «كوفيد-19» بدا واضحاً فى الوثيقة الجديدة، فمن بين الأولويات للدولة الروسية حماية أرواح الناس، من خلال دعم صناعة اللقاح الوطنى، الذى بات أحد أساليب تحقيق الأمن الاقتصادى للدولة. ومن الجديد أيضاً إضافة الأمن السيبرانى كإحدى أولويات الاستراتيجية الجديدة، وذلك نظراً للتطورات الحادثة فى طرق ووسائل استخدامات تكنولوجيا المعلومات فى التأثير على المقومات الاقتصادية والعسكرية للدول الأخرى والتدخل فى شئونها.
ويلاحظ أن مجال الأمن السيبرانى بدأ يفرض نفسه بقوة ليس بين الدول الكبرى وحسب، بل أيضاً بين الدول ومؤسساتها وبين جماعات «الهكرز» المجهولين، القادرين على اختراق البنية التكنولوجية وتعطيلها وطلب الفدية. والمعروف أن روسيا متهمة من قبل واشنطن بأنها مصدر مهم من عمليات التخريب السيبرانى، وهو ما تنفيه موسكو بقوة، وتحيل مصدره إلى أمريكا ذاتها.