أمنَنة «النهضة» فى إثيوبيا
تُعد «نظرية الأمننة» إسهاماً كبيراً للباحث «أول ويفر» من مدرسة كوبنهاجن لدراسات الأمن، وتُعتبر النظرية من أهم أدوات التحليل فى دراسة القضايا الأمنية، وتتعلق بقيام المسئولين الرسميين بتحويل قضية عادية يتم التعامل معها غالباً بصورة تقليدية وطبيعية إلى قضية أمنية تمثل تهديدات خطيرة، وبالتالى يتم التعامل مع القضية باعتبارها أولوية أمنية تستلزم إدارة مختلفة، بدون الانتباه للقواعد والمعايير الداخلية والخارجية التى تحكم عملية صنع القرار السياسى المتبعة فى الظروف الطبيعية.
وهى نظرية تُبرز قوة الخطاب السياسى الرسمى، والطبيعة السياسية لعملية الأمن. وحسب النظرية، يعمد المسئولون الرسميون إلى إعلان تخوفهم من تهديد ما وتصويره كمهدد للأمن القومى للدولة.. حتى تتحرك كل المؤسسات بصورة سريعة للتعامل معه على أنه قضية تستوجب تخصيص الموارد والوقت والسياسات لمواجهة تداعياتها.
وبحسب «أول ويفر» فإن هذه الظاهرة سيئة ولها سلبيات عدة، ولهذا فقد قدم استراتيجية لنزع الصفة الأمنية عن القضايا العادية، بحيث يتم التعامل معها فى إطارها الطبيعى وفق القواعد والمعايير الحاكمة لهذه الأمور، من خلال التركيز على جوانب محددة. أولاً: التهديدات الأمنية المرتبطة بسياق القضية، وثانياً: عملية التقييم للفعل الأمنى الطارئ الذى تتخذه الدولة حيال القضية. وأخيراً: التداعيات المرتبطة بهذا الفعل الأمنى الطارئ، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين الوحدات المختلفة المعنية بالتهديد. وتطبيقاً لنظرية الأمننة فإن الحكومة فى إثيوبيا تستخدم سد النهضة كقضية أمنية، وتخرج به من الإطار التنموى. وكثيراً ما يشير رئيس الوزراء الإثيوبى إلى أهمية سد النهضة فى تحقيق الازدهار والتنمية، وكأن السد هو السبيل لإخراج الدولة من الفقر، وأن دول الممانعة للسد هى دول ضد التحول الاقتصادى والتنمية فى إثيوبيا.
وهكذا تستخدم حكومة إثيوبيا سد النهضة سياسياً لشحذ الدعم السياسى والأصوات الانتخابية، وبيان ما تتعرض له الدولة من تهديد ومؤامرة من دولتى المصب لمنع أى تنمية، والخروج به عن إطاره الحقيقى بأنه مشروع اقتصادى، ويتطلب أولاً وأخيراً استقراراً إقليمياً خاصة بدول الجوار. إن الانتخابات فى إثيوبيا فى 21 يونيو الجارى تُعد الأولى فى عهد رئيس الوزراء الحالى آبى أحمد، والسادسة منذ إقرار الدستور الإثيوبى 1994، وتأتى فى وقت متأزم سياسياً وعسكرياً فى ظل ما يشهده إقليم التيجراى فى الشمال من انتهاكات وخسائر بشرية تصل إلى درجة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فى مواجهات عسكرية بين قوات تحرير الإقليم من ناحية وقوات الدفاع الوطنية الحكومية وتدعمها قوات خارجية من إريتريا.. فى سابقة خطيرة باستدعاء جيش خارجى ضد أفراد الدولة الوطنية.
وحسب أحدث تقارير البنك الدولى فإن «إثيوبيا تواجه أوقاتاً عصيبة، وما تشهده من اضطرابات أمر مؤسف ومثير للقلق الشديد، وتشهد إثيوبيا -فى الوقت ذاته- أسوأ غزو للجراد منذ عقود، وهذا قد يقوّض مكاسب التنمية ويهدد الأمن الغذائى وسبل عيش ملايين الإثيوبيين. كما تشهد إثيوبيا التأثير الاجتماعى والاقتصادى غير المسبوق لوباء كوفيد 19، بما يشمل التأثير الاقتصادى المخيف، من ارتفاع أسعار الأغذية الأساسية، وارتفاع البطالة، وتباطؤ النمو، وزيادة الفقر».
«إن مثل هذه الأحداث مجتمعة تقوّض أى نتائج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن أن يؤثر الاضطراب السياسى، المرتبط بالاضطرابات الاجتماعية، سلباً على النمو من خلال انخفاض الاستثمار الأجنبى المباشر والسياحة والصادرات. فضلاً عن القدرة التنافسية المحدودة، مما يقيد تطوير التصنيع وخلق فرص العمل وزيادة الصادرات. وأخيراً فإن القطاع الخاص لا يزال سيئاً، مما سيحد من القدرة التنافسية التجارية للبلاد والقدرة على الصمود أمام الصدمات».
وهكذا تواجه إثيوبيا مشكلات متنوعة ما بين القبلية والدينية وانعدام الاندماج الوطنى، والأوضاع المتدنية اقتصادياً وأمنياً، ونضيف إلى ذلك أزمة سد النهضة وعدم الاتفاق على إجراءات الملء للسد مع دولتى المصب السودان ومصر، والذى يُعد خروجاً على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ويضع إثيوبيا فى نطاق «الدول المارقة»، ويزيد من فرص عدم الاستقرار المتصاعد فى منطقة القرن الأفريقى، ولا يخدم مشروعات التنمية الإثيوبية خاصة، والمنطقة بأسرها عامة.
إن تعنت حكومة إثيوبيا هو محاولة أخيرة للحصول على شرعية مزيفة، ودعم شعبى ثورى لقضية تنموية جرى التعامل الخطأ معها سياسياً وأمنياً.
* كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة