ترسيم جديد لحدود المتغيرات على أرض فلسطين (2)

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

ما بين المقال الأول وهذا الجزء الثانى الذى يُنشر هذا الأسبوع ويمضى بحثاً عن حدود المتغيرات التى جرت خلال 11 يوماً ماضية، تمكنت الجهود المصرية من إنجاز اتفاق للهدنة ما بين الفلسطينيين وإسرائيل بدأ فى الثانية من صباح الجمعة الماضى. ظل لافتاً أن المجلس الوزارى الإسرائيلى المصغر (الكابينت) هو الذى أقر بالإجماع وقف إطلاق النار، بعد توصية تقدم بها قادة الأجهزة الأمنية جميعاً، بمن فيهم رئيس هيئة الأركان العامة للجيش، ورئيس «الشاباك» ورئيس «الموساد» ورئيس هيئة الأمن القومى، مفادها قبول المقترح المصرى لوقف إطلاق النار من قبَل الطرفين وبدون أية شروط. وقد اعتمد بنيامين نتنياهو هذه التوصية وجرى إعلانها بهذه التفصيلة التى باتت محل تساؤل، خاصة داخل إسرائيل، ولم يُكشف عن إجابات لها حتى الآن على الأقل.

تلك المقدمة الموجزة تحفز من جهد البحث عن ملامح الترسيم الجديد الذى جرى اعتماده على أرض الأحداث، مما شملته الأحد عشر يوماً عمر تلك الجولة المثيرة، فحزمة المتغيرات التى بدأنا استطلاع ملامحها فى المقال السابق، هناك الكثير مما يدعو إلى الظن بأنها ساهمت على نحو كبير فى الوصول إلى محددات هذه النهاية. أهمها الحالة العامة الداخلية لإسرائيل وللمواطن الإسرائيلى بالخصوص، حيث تمثل هذه الحالة المتغير الأكثر ارتباطاً وتفسيراً لما ذكرناه من إجماع قادة الأجهزة الأمنية، الذى خرج بهذا القدر من الوضوح ربما للمرة الأولى وبتلك السرعة. بدا أن هناك حالة إحباط ويأس واسعة فى المخيلة الإسرائيلية أقوى من أى وقت مضى، مرجعها أن التفكير فى حل النزاع مع الفلسطينيين بات شبه مستحيل، استناداً إلى القيود التى كبّلت التفكير الإسرائيلى على مدى عقود واستحكمت بصورة كبيرة فى السنوات القليلة الماضية، تمثلت فى الإعلان عن «صفقة القرن» الأمريكية وما تبعها من حزمة اعترافات شغلت سنوات حكم ترامب، بدأت مع مدينة القدس وتوحيدها ونقل السفارة إليها، ولم تقف عند حد الضم الكامل والنهائى للجولان السورى، فقد جاء فى نهاية تلك السنوات ما سُمى حزمة «السلام الإبراهيمى» ليشكل آخر حلقة أحكام على اليقين الإسرائيلى بأن القضية الفلسطينية يمكن اعتبارها فى طور احتضارها الأخير، وعملياً التفكير فى «رد» الحقوق الفلسطينية وفق إطار ملزم بات لا مسوغ له بالنظر إلى مجمل المشهد ومعطياته التى تسربت إلى الكافة دون استثناء.

مكمن الإحباط والمسبب الرئيسى لحالة «اليأس» الإسرائيلى أن صورة الاستحواذ الوردية تلك احتلت السطح فقط، لكن فى مساحات أخرى أبعد عمقاً بقيت الهواجس أشبه بمن «فر» بغنيمة ثقيلة، يقلقه إلى حد كبير الأقدام التى لن تكف عن مطاردته. مبعث القلق أن إسرائيل باتت لا تملك ما يمكنها تقديمه، وهذا انعكس فى مشاهد التعصب والتطرف الواسعة التى وصمت سلوك المستوطنين وجيل الشباب منهم بالخصوص، حيث تمكّن هؤلاء حتى من قبل الأحداث الأخيرة من إضعاف البنية السياسية الإسرائيلية، التى شهدت أربع جولات انتخابية متلاحقة خلال عامين بدا فيها ملمح «عدم الحسم» معبراً بوضوح عن سطوة الحركة القومية اليمينية المتشددة والتى حطمت قدرات السياسيين الإسرائيليين على الاستجابة والتوازن أمام مطالبهم الصاخبة التى لا تنتهى. الجدير بالذكر أيضاً أنه فى ظل حالة «الهياج» تلك التى استهدفت نزع كل ما هو فلسطينى من معادلة التوازن، ارتكب التشدد والتطرف الإسرائيلى خطيئة لم ينتبه لها، حين تمادى فى «إضعاف» السلطة الفلسطينية وقوّض مكانة الرئيس محمود عباس بوتيرة ساهمت فى حصار تيار «الاعتدال» وغلق الأبواب أمامه، وإضاعة كافة الفرص لإمكانية لعبه لدور الشريك المقابل للجنوح الإسرائيلى.

المتغيرات على صعيد الساحة الإسرائيلية كثيرة ومتنوعة، فكما أسهمت هذه الجولة من استخدام العنف كأداة للمبارزة بين الطرفين، وأزاحت فى طريقها بـ«ائتلاف التغيير» المناهض لبنيامين نتنياهو بقيادة نفتالى بينيت ويائير لابيد، لتعود الترجيحات مرة أخرى لصالح نتنياهو فى ولاية إضافية داخل ذات الدائرة المغلقة، أسهمت أيضاً فى إحداث هزة كبيرة لـ«نظرية» الأمن الإسرائيلى، التى رسخ لديها على مدى عقود أن أخطار إنتاج التهديد من داخل حدودها المعترف بها أو من المناطق المحتلة فى العام 1967 هى فرضية بعيدة تماماً أمام امتلاك إسرائيل آلة بطش هائلة وتمتعها بتفوق ساحق فى ميزان القوة العسكرية ما بينها وبين المكونات الفلسطينية. اليوم ومهما حاول المجمع الأمنى الإسرائيلى بما يضمه من خبراء وأجهزة فى تقويض آثار ما جرى، يظل الجرح غائراً بأكثر مما يمكن استيعابه، فقد استخدمت فصائل المقاومة الفلسطينية للمرة الأولى سلاحين من منتجات الحرب غير التقليدية، وهما الغواصات المفخخة والطائرات المسيّرة. وهى نقلة نوعية فى فكر وتكتيكات العمل الفلسطينى المقاوم، باعتباره أكثر قدرة على تحقيق إزعاج أمنى واسع المدى، حتى وإن ظلت نتائجه محدودة فى هذه الجولة بالمقارنة بالصواريخ التى جرى عليها تطوير محدود مكّنها من الوصول إلى تل أبيب وغيرها من المدن عشرات المرات، وهددت الحركة الملاحية فى مطار بن جوريون. الفرضية إذن التى يمكن أن تكون محل تدقيق ونقاش إسرائيلى اليوم، هى ماذا لو أن الأسلحة غير التقليدية جرى عليها فى المستقبل تطوير مماثل، وهو الأسهل والأقل كلفة من حالة الصواريخ، والأبعد من ذلك فى حال جرى تسلل أى من السلاحين إلى داخل المدن المشتركة، أو تمكن من الإبحار بموازاة المدن الإسرائيلية الساحلية ذات البعد الاستراتيجى للدولة؟

النظرية اهتزت دون شك، وهناك استشعار ملح الآن بضرورة خضوعها لمعالجات عميقة، حتى وإن جرت خلف الستار الغليظ الذى أسدله كلا الطرفين حول القدرات الصاروخية للمقاومة، ومدى نجاح القبة الحديدية الإسرائيلية فى التصدى لها، فإسرائيل لا ترغب فى الإفصاح عن ثغرات منظومتها، وهذا بديهى، وحماس بدورها حققت حزمة من المكاسب على صعيد الداخل الفلسطينى، لكن يظل عجز الطرفين عن تحقيق «نصر مُدو» هو سيد مشهد التغيرات التى جرت على خرائط هذا الصراع الممتد.