أيادٍ حاربت بتضميد الجراح: أطباء فلسطين.. ملائكة تحت القصف

أيادٍ حاربت بتضميد الجراح: أطباء فلسطين.. ملائكة تحت القصف
«عيونك شوكة فى القلب، توجعنى وأعبدها، وأحميها من الريح، وأغمدها وراء الليل والأوجاع أغمدها، فيشعل جرحها ضوء المصابيح، ويجعل حاضرى غدها»، صرخة أطلقتها روح عاشق فلسطين وشاعرها محمود درويش قبل عشرات السنين، لتلتقطها قلوب فلسطينية ألفت أوجاع الاعتداءات الإسرائيلية على أراضيها، فبينما تتعالى أصوات الرصاص فى ربوع فلسطين المختلفة وتتهدم المنازل على ساكنيها، وتنفطر قلوب أمهات على شهداء من أبنائهن، تظهر فئة أخرى تتناسى أرواحها الموجوعة وتُسخّر ما تبقى من طاقاتها فى علاج كل ضحية تصل إليها أياديهم فى أى مكان من أرض فلسطين الباكية.
«الوطن» وثّقت حكايات خالدة كان أبطالها الأطقم الطبية، الذين امتلأت بقصصهم أراضى غزة والقدس والضفة الغربية خلال الأيام العشرة الماضية، أحدهم كان طبيباً عالج بيديه آلام ولديه المصابين بشظايا إسرائيلية فى جسديهما، وآخر أسعف صديق عمره الذى طالته الاعتداءات فى القدس، وثالثة انخلع قلبها على أخ كان، بالأمس، سنداً لها وأصبح طريح الفراش بين يديها. ملحمة جيش فلسطين الأبيض لم تقتصر على حاملى شهادة الطب، بل امتدت لتشمل قلوباً من فولاذ لأناس أبوا البقاء فى بيوتهم وهرولوا إلى المستشفيات ليتطوعوا لعلاج مصابى الاعتداءات وتشييع الضحايا، غير أن مسلسل البطولات ما كان ليكتمل دون ظهور أعضاء الهلال الأحمر الفلسطينى الذين انهالت عليهم أعداد هائلة من ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية استوعبوها، بالتزامن مع حرب أخرى يخوضونها ضد وباء شرس اهتز له العالم قبل حين.
«صبح»: عانيت من انهيار عصبي بسبب إصابة أبنائي
يحملون أرواحهم فوق أكفهم، سلاحهم سماعة طبية ودرعهم الأمل وحلمهم مداواة من يصرخ جراء إصابة بنيران العدو ومع كل صافرة إنذار أو صوت انفجار، لا يعلمون إذا كان سيأتي من يطبّبوه، أم أنهم سيكونون بين المصابين، راجين من الله أن يمر الأمر بسلام ولا يُصاب أحد منهم أو من غيرهم، ليس تكاسلًا وإنما تمنيًا ألا يصاب أحد بأذى، يحلمون بالحياة ويحاولون أن ينقذوا غيرهم بحب وابتسامة، يدفعون الموت عن الناس ويواجهونه، فينتصرون مرة، ويهزمون مرات، يستقبلون أحباءهم فيخلعون عباءة الأطباء ويلبسون عباءات الآباء والأمهات والأشقاء، يودّعون الحزن لدقائق، قبل أن يعودوا لارتداء البالطو الأبيض ليعالجوا أبناءهم وأشقاءهم وأمهاتهم وأقاربهم، يصارعون ألم المهنة وألم فقد الأحباء في آنٍ واحد، ويكتبون بعرقهم المختلط بدماء الشهداء والمصابين بطولة من بطولات الجيش الأبيض في زمن الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
كعادته وقف الطبيب الفلسطيني عائد صُبح، داخل مقر عمله في المستشفى الإندونيسي، يتحرّك بين الجرحى والمصابين ،بسبب عمليات القصف التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، وخلال استقباله للمصابين من عربات الإسعاف، وجد ابنيه يخرجان من إحدى السيارات وهما بحاجة للعلاج.
يومه كانت بدايته كالمعتاد، استيقظ في الصباح الباكر وودّع أسرته وأبناءه، وهنّأهم بأول أيام عيد الفطر، وتوجّه إلى عمله، لكن في عصر ذلك اليوم، استقبل الطبيب الثلاثيني عددًا من المصابين من عربات الإسعاف، يحملهم مع الممرضين على العربات المتحركة إلى الداخل، من بين أصوات المدافع والطلقات، وأصوات أنين الرجال، تسلل إلى مسامعه صراخ أطفال من إحدى العربات، يبكون بشدة من هول ما تعرّضوا له، فقرّر الاقتراب من الصوت لمساعدة الأطفال، وتفاجأ بأنهما ابناه، وفي حالة يُرثى لها وبحاجة إلى المساعدة الطبية.
للحظات وقفت الدنيا به، ومرت في رأسه عشرات السيناريوهات والصور عن منزله الذي طاله القصف وعائلته التي يرقد منها ابناه مصابين أمامه، وبات مطالبًا بأن يعالجهما كطبيبٍ، وأن يتغلب على مشاعره كأب معرض لفقدان فلذات كبده، وعن هذه اللحظة العصيبة قال: «أصبت بانهيار عصبي، وتولى زملائي مسئولية علاج ابنيّ والقيام بالإسعافات المطلوبة لهما».
المصائب لم تأتِ فراد على «عائد»، فبيته الذي يقع في منطقة بيت حانون، وقصفته صواريخ الاحتلال، في أول أيام عيد الفطر، لم يكن يسكن فيه وحيدا، فيعيش فيه أيضا شقيقته وأبناؤها، والذين توفوا، ولم ينجُ من القصف سوى ابناه «جعفر» البالغ من العمر 5 أعوام، و«سارة» في العاشرة من عمرها، «البيت كان به الكثير من الأبناء، توفوا جميعا، وتبقى أبنائي تحت الأنقاض أكثر من ساعة حتى تم إخراجهم».
ساعات ليست طويلة قضاها الطبيب الفلسطيني بجانب ابنيه في المستشفى، حتى تحسّنت حالتهما الصحية، وتقرر أن يستكملا العلاج في أحد منازل العائلة، وتابع: «المصابون كثر، وقررت أن يستكملا علاجهما خارج المستشفى ليتوافر مكان لمصابين من الممكن أن تكون حالتهم أكثر صعوبة منهما».
«آلاء»: شقيقي أصيب بالرصاص ولم أترك عملي
آلاء الشامري، طبيبة فلسطينية تعمل في أحد مستشفيات الضفة الغربية، بدأت العمل في مهنة الطب قبل أكثر من 10 سنوات، منذ دراستها وهي تحلم بأن تكون سببًا في شفاء أبناء وطنها من رصاص الاحتلال، لذا تخصّصت في قسم الجراحة العامة، لكنها لم تكن تعلم أن الواقع أقسى مما تتخيل، فطوال عملها كانت شاهدة على الكثير من الأوقات الصعبة على أبناء وطنها، وكانت آخرها الاعتداءات الأخيرة من قوات الاحتلال على المسجد الأقصى ومحاولات طرد سكان حي الشيخ جراح، لكنهم صمدوا رافضين رحيلهم.
على مدار أيام صعبة عاشت الطبيبة الثلاثينية أوقاتًا فوق الاحتمال، فشاهدت أبناء وطنها يُقتلون، وتُهدم منازلهم، ويُطردون من ديارهم، وخلال عملها كانت تسعى لعلاج المصابين والجرحى، رغم التحديات الكثيرة التي تواجهها، وقالت: «في بعض الأوقات يكون عدد المصابين كثيرًا وعدد الأطباء لا يكفى، وأحيانًا يكون المستشفى ممتلئًَا عن آخره بالمرضى، لكننا نسعى لتوفير العلاج والراحة لكل المصابين، حتى الشفاء التام».
أصعب المشاهد التي مرّت على «آلاء»، كانت حضور طفل مصاب ثالث أيام عيد الفطر، وكانت حالته الصحية متدهورة جدًا، بسبب وجوده في مكان للاشتباكات بين بعض المتظاهرين وقوات الاحتلال، وأصيب على إثرها بإصابات بالغة، اضطرت معها لبتر قدمه وحدوث إعاقة في ذراعه، وأضافت: «حين استفاق كان يصرخ بشدة «أين قدمي، ماذا حدث لذراعي؟»، ويريد ترك سريره»، صرخات الطفل الذي لم يتجاوز 12 عامًا، كانت تخلع قلبها من مكانه، رعبًا على ابنها الذي يصغره بسبعة أعوام من أن يلقى المصير نفسه.
موقف آخر كان قاسيًا على الطبيبة الشابة، بعدما تلقت مكالمة هاتفية من أسرتها، تفيد بأن شقيقها الأصغر أُصيب برصاص قوات الاحتلال، ونُقل إلى أحد المستشفيات بقطاع غزة، هذا النبأ الصادم أعاد لذاكرتها استشهاد شقيقها الأكبر بالطريقة ذاتها، لكنها لم تستطع زيارته، بسبب كثرة الجرحى الموجودين معها بالمستشفى، وتعجز عن تركهم والذهاب للاطمئنان عليه، «نداء الواجب تجاه شعبي كان أكبر من حياتي الشخصية، ولكنني كنت أحرص على الاطمئنان عليه بالاتصالات الهاتفية بصفة مستمرة، وكان حالته بسيطة، وخرج من المستشفى بعد عدة ساعات».
القضية الفلسطينية من وجهة نظر «آلاء»، هي مبدأ تعيش به وتدافع عنه أو تموت في سبيل تحقيقه، فالكل في وطنها يحلم ويسعى لتحرير الوطن من الاحتلال، الجميع في مكانه يُنفّذ خطته بأسلوبه، فهناك من يدافع بالتصدي للعدوان، مثل الشباب الذين يتصدون لهم، نحن الأطباء والأطقم الطبية نكافح بعلاجهم للحفاظ على حياتهم، ليستكملوا المسيرة، وكلنا معرّضون للخطر، ففي الأعوام الأخيرة استُشهد الكثير من الأطقم الطبية لوجودهم في مساعدة المصابين قُرب الاحتجاجات.
طبيعة عمل الشاب الثلاثيني أحمد قدرة، سائق عربة إسعاف، وحياته في منطقة مشتعلة لا تنطفئ فيها نيران القصف ولا تهدأ بها أصوات الرصاص ولا يتوقف فيها نزيف الدم، جعلته حلقة وصلٍ دائمة بين أرض ينتشر فيها الموت وأماكن تحاول جاهدة أن تكون منبعًا للحياة، فمنذ اندلاع الاشتباكات كان نطاق تمركزه على بوابة القدس الشرقية القريبة من حي الشيخ جراح، وبمجرد أن يدخل المصابون عربته ينطلق بها في رحلة مليئة بالحكايات والقصص والمخاطر والأهوال، يحاول من خلالها تفادي النيران والصواريخ للوصول إلى المستشفى الذي يجاهد العاملون به لإنقاذ المصابين تحت قصف الصواريخ.
الاشتباكات الدائرة الأخيرة، لم تكن الأولى بالنسبة له، فعمله في مجال الإسعاف لأكثر من 10 سنوات، شاهد خلالها العديد من اعتداءات قوات الاحتلال على الشعب الفلسطيني، «أيضا لم تسلم الأطقم الطبية من مضايقات الاحتلال، ففي أوقات كثيرة يعتبرونهم أهداف معادية، أو يعملون على عرقلة طبيعة عملهم».
وخلال الاعتداءات الأخيرة من جانب قوات الاحتلال، عاش «قدرة»، الكثير من المواقف الصعبة، أبرزها حين تفاجأ بصديق عمره وطفولته ضمن المصابين في الاشتباكات، فكان وصاحبه منذ الطفولة يلعبان معًا، ويتعلمان معًا في الفصل نفسه، ليعيش واحدة من أصعب مواقف حياته، وعن هذا الموقف قال: «ترى صديق العمر والأخ بالنسبة لك مصابًا على يد الاحتلال، ويطلب منك سرعة التحرك لنقله إلى أقرب مستشفى لعلاجه»، و«الحمد لله الإصابة جاءت بسيطة، عبارة عن جرح تم علاجه في المستشفى، وبعد فترة راحة قصيرة عدت للعمل مرة أخرى».
ورغم صعوبة تلك المواقف إلا أنها لم تكن الأصعب بالنسبة له في مسيرة عمله بمجال الإسعاف، ولم يكن القدر رحيما به، حيث جعله يمر بموقف أكثر قساوة على قلبه، ولم يتحمله، هو وفاة أحد زملائه في العمل خلال اشتباكات في 2018، «كنت أنا وهو بننقل المصابين، وفجأة ونحن نتحرك سويا، إصابته طلقة، ولم أتمكن حينها من إسعافه».