أسرار التحنيط وفنون التجميل لـ«مومياوات الأجداد»

أسرار التحنيط وفنون التجميل لـ«مومياوات الأجداد»
شعر منسدل ينبض بالحياة لآلاف السنين منذ وفاة صاحبته الملكة المحبوبة زوجة الملك أمنحتب الثالث «تى» جدة الفرعون الذهبى توت عنخ آمون التى فارقت الحياة منذ 3349 عاماً، وذلك بفضل تركيبة فريدة من المستحضرات التجميلية والزيوت والتركيبات الكيميائية التى استخدمتها فى حياتها وطورها الكهنة بعد مماتها ليحافظوا على شعرها المموج ذى اللونين الأسود والبنى على هيئته الساحرة التى أبهرت العالم، ويفتحوا الباب واسعاً أمام العلماء والباحثين والأثريين ليكتشفوا أسراراً جديدة عن عالم «التجميل والعناية بالشعر والبشرة» فى حياة المصريين القدماء.
لم يكن التفوق فى علوم التحنيط لدى كهنة العصر الذهبى للفراعنة بالأسرة الـ18 ومن لحقهم من كهنة الأسرة 21 يتعلق بالشعر فحسب، بل تجاوزه لمعرفة دقيقة بعلوم الطب بما تشمله من تشريح وجراحة وعظام وحتى التجميل، ووصل الأمر بهم للوصول إلى مواد راتنجية تستخدم بطريقة مشابهة لتلك الطريقة التى يستخدمها أطباء التجميل فى عصرنا الحديث، هذا ما كشفت تفاصيله دراسة قامت بها الدكتورة سحر سليم أستاذ الأشعة التشخيصية بكلية الطب جامعة القاهرة.
من غرفة المومياوات الملكية بالمتحف المصرى بالتحرير ومخزن الآثار بنفس المبنى التاريخى، حيث كانت تحفظ 10 مومياوات ملكية من أصل 13 مومياء «موضع البحث» كانت بداية الرحلة البحثية للدكتورة سحر سليم تحت إشراف عالم المصريات زاهى حواس، والتى قطعت فيها 657 كيلومتراً وصولاً لجنوب مصر، حيث يرقد الفرعون الشاب «توت عنخ آمون» بمقبرتة فى البر الغربى لمدينة الأقصر، ثم كانت العودة للقاهرة لفحص أجنة تنسب لابنتى «توت عنخ آمون» اللتين حفظتا فى معامل متحف النساء والولادة بمستشفى قصر العينى منذ نقلهما من مقبرة «توت عنخ آمون» سنة 1932.
كان البطل فى مشروع الباحثة المصرية جهاز الأشعة المقطعية «Ct-Scan» الذى يستطيع أخذ آلاف الصور المقطعية لكل جزء من المومياء دون أن يضطر أى من أعضاء الفريق إلى لمس المومياء أو فك لفائفها. وتقول الكتورة سحر سليم إنه تم تحليل التصوير المقطعى ثنائى الأبعاد وثلاثى الأبعاد لـ13 مومياء ملكية تعود إلى حوالى 1550 إلى 1153 سنة قبل الميلاد، ومن بين المومياوات التى تم فحصها: أمنحتب الثالث، توت عنخ آمون، سيتى الأول، ورمسيس الثانى، وكانت المفاجأة أن الصور المقطعية أظهرت حشو مواد طبيعية تحت الجلد فى 12 مومياء بنسبة (92.3٪) بمواد متجانسة ابتكرها الكهنة المحنِّطون، وتعتبر هذه المادة بمثابة حلم لأى طبيب تجميل فى العصر الحديث، حيث أظهرت تلك المادة نسبة تجانس عالية وانتشاراً أسفل الجلد دون إظهار أى تكتلات، ونجحت فى توفير محيط موحد كامل لمناطق الجسم المعنية دون التسبب فى أضرار جسيمة للأنسجة، لتظهر مومياوات ملوك مصر وكأنها تنبض بالحياة حتى يتسنى لها العبور بكامل هيئتها للعالم الآخر حين يقوم الجسد، حسبما آمن قدماء المصريين بقيامة الجسد.
وتابعت «سليم» القول: براعة منقطعة النظير أظهرها المُحنِّط القديم وكأنه جراح ماهر درس بأعرق الجامعات الحديثة، حيث توصل المحنط لتقنيات متباينة طورها على مدار 3000 عام من التجارب والتغيير وأثبتت التجارب المعملية اللاحقة أن مادة التعبئة تحت الجلد تتكون من الراتنج ونبات الكتان وبعض الحشوات التى لم تكن واحدة فى كل المومياوات، حيث كانت تختلف من مومياء لأخرى ومن حقبة زمنية لأخرى، وحتى نسب استخدامها فى المومياء الواحدة لم تكن واحدة، وكان الهدف الأساسى هو الحفاظ على المظهر الحيوى للجسد، كما قاموا أيضاً بعمليات تجميل للأنف والأعين وحتى الجفون وتم التعامل معها بحرص ومهارة فائقة، ومن أعجب الاكتشافات أن المحنِّطين الفراعنة قاموا بحشو البلعوم فى بعض المومياوات بالشكل الذى يحافظ على حيوية مظهر الرقبة، ومثال ذلك مومياء «يويا» التى كشفت الأشعة المقطعية لها عن وجود حشوات كتانية مغموسة بالزيوت الراتنجية بالبلعوم.
عملية التجميل الأفضل بالتعبئة المثالية تحت الجلد لكامل الوجه «فيلر» كانت من نصيب 3 ملوك هم: توت عنخ آمون وأمنحتب الثالث وسيتى الأول، الذى يعتبر صاحب عملية التجميل التى أجمع العلماء على أنها الأكثر إتقاناً حتى لُقب بـ«الجمال النائم»، حيث استُخدمت تركيبة فريدة من المواد الطبيعية دُهن بها كامل الجسد جعلته محتفظاً بهيئته دون انكماش أو تشقق أو تآكل أو تحلل حتى وقتنا الحاضر وكأنه يغط فى سبات عميق، فيما كانت عملية التجميل المعجزة من نصيب مومياء رمسيس الثانى الذى قام المحنِّط بتجميل أنفه مستخدماً عظام طائر صغير، وحبوب الفلفل الأسود غير المطحون، وكذلك حشوات تحت الجلد فى الوجه والجسد بطريقة احترافية، فيما شملت التعبئة تحت الجلد مناطق محدودة للجميلة القوية الملكة «تى» لمنطقة العنق، حيث تم تعبئته بطريقة مشابهة لتلك المستخدمة لمومياء والدها «يويا» المحفوظة حالياً بالمتحف المصرى بالتحرير.
وعن طريقة حقن تلك المواد، رجحت خبيرة علم الأشعة أن تكون المومياوات قد تعرضت بعد موتها لعمليات جراحية دقيقة وحقن أسفل الجلد باستخدام ما يشبه أدوات الحقن وعصى مجوفة، وكان يتم عمل 17 جرحاً فى كامل جسد المومياء قبيل تحنيطها، فى عملية جراحية دقيقة وثَّقتها بردية تشريح محفوظة بالمتحف البريطانى، وكانت على درجة عالية من المهارة، بحيث لا يمكن أن نرى جروحاً أو ثقوباً فى الوجه توحى بوجود عملية حقن أسفل الجلد منذ 3500 سنة. رحلة مومياوات الملوك العلمية لم تتوقف عند هذا الحد؛ فمن الغرفة 55 بالمتحف القومى للحضارة المصرية، حيث معمل ترميم المومياوات المجهز بأجهزة الفحص المخبرى للمومياوات وفحوص الـ«DNA»، باشر الباحثون مهمتهم ضمن مشروع الدكتورة سحر سليم لفحص المومياوات الملكية، على مدار 3 أعوام من الدراسات المتواصلة للأنسجة والعينات لـ22 من ملوك الأسرة الـ18 بحث أشرف عليه الدكتور مصطفى إسماعيل المشرف على معمل المومياوات بالمتحف ليكمل به صورة البازل الناقصة لأبحاث بدأها جاستون ماسبيرو عام 1886، بعد نقل مومياوات الخبيئة الملكية من الأقصر لتُعرض فى المتحف المصرى بالتحرير ودوَّنها فى دراساته الاستكشافية، وأزال زاهى حواس وسحر سليم عنها التراب بأشعة مقطعية متطورة، ثم أتى الفحص الدقيق ليكشف عن خفايا عمليات التجميل والمستحضرات التى استخدمها ملوك الفراعنة فى حياتهم أو تلك التى طورها كهنة التحنيط لاستخدامها لحفظ أجسادهم بعد الموت فمن تركيبة من 13 مادة طبيعية أبرزها الحناء ومجموعة من 6 زيوت مختلفة منها الصنوبر والزيتون توضع بنسب محددة استطعنا معرفة أغلبها ويتبقى مكونان يتم فصلهما من خلال تحليل عينات من خصل الشعر الأشهر للملكة التى توفيت فى الثمانين من عمرها وظلت محتفظة بجمال شعرها الفريد، ولم تكن هى الوحيدة التى امتلكت شَعراً نجح المحنِّط أثناء عملية التحنيط فى الحفاظ على هيئته، بل لم يكتف بذلك وراح يبدع فى تجميل المومياء التى يعمل عليها بوضع وصلات للشعر، صنعها -كما أثبتت التحاليل المخبرية- من خصلات ذيل الخيل
كما استعان بشعر بشرى، وهو ما وجدناه فى مومياء الملكة «أحمس نفرتارى» بجدائلها الرائعة التى ثبتها المحنط بفروة الشعر من خلال ثقوب فى الرأس ثبتها بمادة راتنجية لاصقة، ثم وصلها بجدائل طولية بباقى الشعر مع أخرى منفصلة وبين الملوك كان الملك «تحتمس الثالث» صاحب الشعر الأجمل والأقوى على الإطلاق. ويقول الدكتور مصطفى إسماعيل، المشرف على معمل المومياوات بالمتحف القومى للحضارة: «يبدو أن الكهنة المحنِّطين كان لديهم من البراعة والدهاء والدراسات التى منحتهم القدرة على ابتكار مادة تخفى كل ما تعرضت له المومياء سواء أكانت إصابات بحروب أو حادث أدت لمقتله أو حتى انفصال الرأس والأطراف العرضية أثناء عملية التحنيط الأولى أو الترميمات اللاحقة التى قام بها كهنة الأسرة الـ21 لبعض المومياوات التى تعرضت لسطو اللصوص على المقابر لسرقة التمائم والحلى الموضوعة على المومياء
وهو ما كشفت عنه الدراسة التى قمنا بها لمومياء الملك رمسيس الثالث الذى قُتل بمؤامرة عرفت تاريخياً بمؤامرة الحريم، حيث وجدنا قطعاً فى رقبته تم تغطيته بمادة من مكونات طبيعية متجانسة مع لون الجسم، وأخفت القطع تماماً حتى عثرنا على موضع النحر الذى لم يتم سوى من خلال الأشعة المقطعية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث استطاع المرمم وصل رأس مومياء الملك سيتى الثانى بجسده من خلال ثقوب بالعنق والرأس ووصلها بمادة راتنجية من الأمام والخلف، ومن ثم تغطيتها بشكل كامل وتوحيد لون كامل المومياء».
ويضيف: «كشفنا الكثير من الملاحظات خلال الدراسة، حيث وُضعت هياكل خشبية للملك أمنحتب الثالث لتعمل كدعامة للجسد بعد تفريغ الأحشاء وتحافظ على قوامه الخارجى، وكان من المذهل أن المحنط كان على علم أن الملك أمنحتب يعانى من هشاشة عظام فشرع أثناء التحنيط الذى استغرق طبقاً للأدبيات الأثرية نحو 40 يوماً فى صنع هيكل خشبى لتدعيم القفص الصدرى والقدم والذراعين، ولا يكاد المتأمل لموميائه أن يكتشف الفارق».
واستكمل «إسماعيل» قائلاً: «التفت الكهنة فى الأسرة الـ21 لبعض القصور التى لحقت بعمليات تحنيط المومياوات الملكية للأسرات السابقة بعد هجوم اللصوص عليها لنهب ما حولها حيث ذبل لونها وكادت ملامحها تختفى، لذا قاموا بدراسة وتطوير تقنيات تجميلية لجفون العين بقلبها بطريقة معينة بحيث تظهر وكأنها لا تزال محتفظة بشعر الرموش، وقاموا برسم ولصف شعر الحاجبين لتصل لنا المومياوات بعد أكثر من 3000 عام وكأنها تنبض بالحياة».
أنتج هذا التقرير من خلال ورشة عمل عن الصحافة العلمية فى إطار مشروع «الصحافة والعلوم»، وهو مشروع لمعهد جوته، بدعم من وزارة الخارجية الألمانية.