«زيت القنديل».. و«بركات الست»
لم تقتصر مصادر الوجع فى حياة المصريين خلال فترة الأربعينات -كما عكستها السينما المصرية- على أجواء الحرب وإحباط الحب وشح الرزق وابتلاءات الأوبئة والأمراض المتوطنة، بل تمدّدت أيضاً إلى الجهل.. وويل للناس إذا اجتمع الجهل مع المرض.
عرفت مصر الطب والدواء والنظم الصحية منذ عصر محمد على، حاول الوالى الكبير محاربة الجهل والدجل المنتشر بين المصريين بالتعليم، وتمكن من بناء نخبة متعلمة بذلت بعض الجهد فى تحرير العقل المصرى من الخرافة، لكن هذه الجهود كانت تضيع سُدى أمام كلمة تنطلق من فم دجال.
كان هناك من يملك الوعى من بين البسطاء وينظر إلى العلم كمعراج صعود وترقّ من طبقة إلى أخرى، كما يحكى فيلم «قنديل أم هاشم» عن قصة للأديب الكبير «يحيى حقى» (إنتاج عام 1968).
أراد الشيخ رجب أن يلحق ولده «إسماعيل» بكلية الطب، لكن عدم وجود واسطة حال دونه ودون حلمه، ويبدو أن مهنة الطب فى ذلك الوقت كانت مهنة الكبار، أما الدراسات النظرية مثل الحقوق والآداب، فقد كانت متاحة للفقراء وبمصروفات أقل. وقد رأينا نموذجاً على ذلك فى شخصية محجوب عبدالدايم -بطل فيلم «القاهرة 30»- الذى تمكن أبوه الموظف الصغير من تعليمه فى إحدى الكليات النظرية.
اشتكى «إسماعيل» -بطل الفيلم- للشيخ «درديرى» خادم مسجد السيدة زينب وحارس قنديل أم هاشم، فهدّأه الأخير قائلاً إن «واسطته موجودة.. الست.. تتكلم مع الحكام حتى يلحقوا إسماعيل بكلية الطب».
فالمأثور عن السيدة زينب، رضى الله عنها، أن الحكام والأمراء والكبراء كانوا يفدون إلى ديوانها ليشاوروها فى أمور البلاد، لذلك سُميت بـ«رئيسة الديوان».
لم يحدث شىء وحيل بين «إسماعيل» ودخول كلية الطب، فلم يكن من أبيه إلا أن راهن بكل ما يملك، ولم تكن أملاكه تزيد على قطعة أرض، باعها ليمول سفر ابنه لدراسة الطب فى ألمانيا.
عاد «إسماعيل» محمّلاً بالعلم فى ظل واقع ينطق كل ركن فيه بالجهل والخرافة، يؤمن بأن زيت قنديل أم هاشم قادر على شفاء العيون من سقمها. وتسبّب الجهل السائد فى إصابة خطيبته «فاطمة النبوية» بالعمى.
واجه إسماعيل الجهل والخرافة بعنف يعادل عنف إيمانه بما تعلم فى ألمانيا، فما كان من محاسيب الست إلا أن واجهوه بضراوة أشد.
اعتزل إسماعيل البشر من حوله، وأصبح من حوله ينظرون إليه على أنه رجل ممسوس بالجنون بسبب غضب «الست عليه». فلا يتعالى أحد على سيدة المقام إلا ويعاقب.
عاش «إسماعيل» لحظة صدق فى ليلة القدر. أدرك أنه عاد من أوروبا بإيمان جديد مداره العقل والعلم، وهو الذى خرج بالأمس من واقع إيمانى يتأسس على التبرّك وتقبيل الأعتاب والاستنجاد بالأولياء والمدد السماوى.
وبعد أن فكر وتدبر أدرك أن الإنسان لا يحلق فى الحياة بجناح واحد، لا بد من جناحين وإلا سقط. فالحياة يختلط فيها عالم الغيب بعالم الشهادة، والإحساس النفسى المبهم بالعقل الواعى المدرك، والمتناهى باللامتناهى، والماضى بالحاضر، إنها خلطة ثنائية عجيبة.
آمن «إسماعيل» بأن العقل يعنى أن يتعامل الإنسان مع الواقع كما هو واقع، وإلا خسر نفسه وخسر الواقع. فالناس لا تتغير بالتصادم، بل بالتطوير، والطبيب الماهر يجب أن يدرك أن الشفاء لا يحدث بحيله وأدواته فى لحظة خاطفة.
فالزمن جزء من العلاج.