الساحر الذهبي.. من الورق إلى البلاستيك

لم تقتصر «فوضى الأربعينات» على دنيا السياسة، بل تمددت أفعاها إلى دنيا الاقتصاد، فضربت معايش المصريين فى مقتل.

تسببت الحرب العالمية الثانية فى أزمة معيشية كبرى ضربت حياة المصريين، فشحت الأرزاق وندرت الوظائف وقلَّت العملة فى يد الناس بصورة موجعة.

أمام الجوع تصغر الكرامة ويصبح التمسك بالقيم غير ذى جدوى. وعندما يقابل ملايين الجوعى قلة من البشر التى أثرت من الحرب وتراكمت ثرواتها حتى طالت السماء وباتت تملك بالعملة من الوجهين تصبح الدنيا بين بين.

عالج فيلم «السوق السوداء» -أُنتج عام 1945- ظاهرة المتاجرة بحاجة الناس إلى القوت أيام الحرب لتحقيق الثروة، وشرح حالة الضعف التى كسرت المصريين أمام الجنيه، فأصبح جل همهم ومبلغ علمهم.

أفلام عديدة عالجت ظاهرة انهيار المصريين أمام الجنيه خلال هذه الفترة، من بينها فيلم شديد الطرافة هو فيلم «الخمسة جنيه» (ظهر عام 1946 وكتبه المبدع الراحل السيد بدير)، ويحكى قصة ورقة بنكنوت من هذه الفئة تمردت على سجنها داخل «خزنة بخيل» وقررت الهروب منه.

قوبل تمرد الخمسة جنيه بسخرية الخمسين جنيه والمائة جنيه، فتفَّها من قيمتها، وعندما باغتها الجنيه بالحديث حقّرت الخمسة جنيه من شأنه ومن قيمته. صممت الورقة المتمردة على الهروب وخاضت رحلة مثيرة تنقلت فيها من يد إلى يد.

تعددت أوجه السخرية من الجنيه. فكان هناك من يسخر مما أصابه حين أراد له الصيارفة أن يتحول من «ذهب» إلى مجرد «ورق» تجد ذلك حاضراً فى فيلم «السكرية» المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للمبدع نجيب محفوظ.

فى أحد مشاهد الرواية وكذا الفيلم جلست العالمة الشهيرة «السلطانة زبيدة» العجوز الطاعنة فى السن تسترجع أيام السيد أحمد عبدالجواد وأمامها ولده الأصغر «كمال عبدالجواد»، يجلس مثل التلميذ -وهو الخوجة المعلم- ليسمعها وهى تسخر منه ومن أيامه وأيام جيله عندما تقارنها بأيامها الخوالى، حين كان الغناء من دم ولحم، فى حين أمسى حديداً وأسطوانات فى تلك الأيام، وكان الجنيه «ذهباً حقيقياً» ولم يكن مجرد ورقة مطبوعة كما أمسى بعد ذلك.

فى أغلب الأحوال تعبر المادة التى تصنع منها العملة عن قيمتها الاقتصادية والشعبية. فأيام الجنيه الذهب كانت القيمة كل القيمة له، وقد أطلق عليه المصريون «المحبوب» (وهو الجنيه العثمانلى). وهل هناك أحب إلى البشر من الذهب؟!.

وبعد تحول مادة الجنيه إلى الورق ظل يحتفظ بقيمته ردحاً من الزمن، وظلت العملات المعدنية تعمل إلى جواره، حتى بعد قيام ثورة يوليو 1952.

أصبح الورق فى ذلك الزمان يحمل قيمة أكبر من المعدن الذى يصنع منه القرش وما هو أقل من الجنيه، وبمرور الوقت بدأ الجنيه ينزل من عرشه الورقى ليصبح مثله مثل القرش المعدنى، فصنع هو الآخر من المعدن. والآن أصبح التوجه إلى العملة البلاستيك وباكورتها «العشرة جنيه».

وقبل أن ينزل الجنيه عن عرش الورق تفنن المصريون فى إنتاج الأوصاف التى تعبر عن قيمته، فأطلقوا عليه «اللحلوح» لقدرته على لحلحة الأمور، «واللمون» إشارة إلى أنه لا يحتمل سوى «عصرة» (تجد ذلك فى فيلم رمضان فوق البركان)، و«الأرنب» لسرعة قفزه من الجيب، وانتشر المثل الذى يقول «الجنيه غلب الكارنيه» على ألسنتهم (فيلم اللمبى)، إشارة إلى القوة السحرية التى يملكها الجنيه والقادرة على هزيمة ما عداه من قيم.

اختلف الأمر بعد ذلك مع ميلاد الجنيه المعدنى، فأصبحت هذه الأوصاف والعبارات جزءاً من الذاكرة الشعبية ليس أكثر، بعد أن بات الجنيه مثل القرش عاجزاً عن فعل أى شىء، بل ولم يعد «محبوباً» كما كانت الحال أيام الجنيه الذهب.