«الثقة بالنفس» بين التوكل على الله والكبر والغرور
ساقتنى الصدفة إلى سماع ندوة تحت عنوان «الثقة بالنفس والطاقة الإيجابية»، واعتمد المتحدث فيها على أهمية الثقة بالنفس لتحقيق الطموح والآمال والأحلام، وجعل أعظم أسباب النجاح الثقة بالقدرات الذاتية، وأوهم غير أولى الألباب -وهم كُثر- بزخرف القول غروراً فأوصلهم إلى خداع أنفسهم بنظرية «إذا كرَّر الفاشل فى نفسه «أنا ناجح» فإنه سينجح»!!
واستدلَ على صحة ما يدعيه بأمثلة لشخصيات أجنبية بدول غربية، ولم يتطرق هو أو محاوروه -على مدار ساعتين- إلى أهمية الثقة بالله وحسن التوكل عليه سبحانه.
وأرى أنه لا مانع من الإفادة من تجارب الثقافات الأخرى وخبراتها، لكنَّ الخطر يكمُن فى الأخذ منها دون تمحيص وتدقيق فيما يتوافق منها مع شريعتنا وهويتنا الثقافية، وفى هذا ما يسوق المجتمع إلى أن يكون إمعة لا يعرف إلا التقليد الأعمى بلا عقل ولا فكر ولا تدبر فى الأشياء الوافدة بحيث ندخلها إلى ثقافتنا بعد تطويعها وإلباسها ثوب هويتنا الدينية والثقافية.
هذا من جانب.. ومن جانب آخر هناك المتسلِّفون الذين لا يعملون إلا بظاهر النصوص الشرعية نراهم يحرمون استعمال مصطلح «الثقة بالنفس»، محتجين بأنه من اختراع الملحدين وليس له نص صريح فى الشريعة الإسلامية بل التأصيل العقدى الشرعىّ على خلافه لأن القرآن والسنة ليس فيهما إلا نكران الذات، والتبرؤ من الحول والقوة بدليل قوله تعالى ﴿وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ *عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وقوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إلى غير ذلك من الأدلة التى يسوقونها، فهم يرون أن مصطلح الثقة بالنفس يغذى تعظيم الذات على حساب الخضوع لله والتسليم له والتوكل عليه. ويرون أن مَن لا صلة لهم بالله من الملحدين وضعفاء الإيمان هم مَن يرددون هذا المصطلح، لأنهم يحتاجون إلى رفع همَّتهم بتكريس معناه ليدفعوا عن أنفسهم العجز والفشل والسلبية، وهذا هو المقصود الأكبر من العبارة عندهم.
وأرى أن هذا القول من المتسلِّفين ليس إلا لأنهم أغلقوا عقولهم عند قاعدة -فقهية بشرية- هى أن الأصل فى الأشياء التحريم إلا إذا ورد دليل على الحل، ولم يفتحوا عقولهم لقبول القاعدة -الفقهية البشرية- الأخرى وهى أن الأصل فى الأشياء الإباحة إلا إذا ورد دليل على التحريم.
وأنا بين هذين الجانبين أتساءل لِمَ هذا التفريط بالأخذ الأعمى لكل ما لا يناسب ثقافتنا؟!!! ولمَ هذا الإفراط فى التشدد والغلو والانغلاق على ثقافتنا دون العمل على تطويرها وتنقيتها بالانفتاح على الثقافات الأخرى وأخذ ما فيها من خير وتنقيته مما يشوبه من معتقدات فاسدة وإعادة تقديمه صالحاً نقياً للبشرية جمعاء؟!!!
وفى هذا السياق قد ينطوى مصطلح «الثقة بالنفس» على معنيين متضادين فهو: «حلو حامض»... «كلمة طيبة» أو «كلمة خبيثة»، ولكل إنسان أن يحمله على الوجه الذى يوافق معتقده.
فبحسب معتقدى ويقينى بالله أرى أن «الثقة بالنفس» لا تأتى إلا من تمام الإيمان بالله والتوكل الخالص عليه وحسن الظن به، فأنا أثق بقدراتى التى وهبها الله لى لأعمر الأرض وأبتغى من فضل الله واثقاً فى نفسى التى هى هبة من الله فلِمَ أرضى أن أكون خنوعاً، عاجزاً، مستضعفاً، متواكلاً، ظالماً لنفسى، لعدم توكلى على الله؟ وكأنى لم أقرأ قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً }. (الآيات (97، 98، 99) من سورة النساء)
إن من يرفضون مصطلح «الثقة بالنفس» لم يتدبروا القرآن ومعانيه.. فهل يمكن أن يعزم إنسان على شىء من غير ثقة وقرار إن العزم يقتضى ثقة بالنفس قال تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (الآية 159 من سورة آل عمران)، ولكن هذه الثقة والعزيمة يجب أن تُقرَن بالتوكل على الله حتى لا تكون كبراً قال تعالى { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} (الآية 23 من سورة النحل).
وهل يمكن أن يؤخذ ميثاق وعهد من غير واثق بنفسه متوكل على الله؟ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} (الآيتان (7، 8) من سورة الأحزاب).
وفى هذه الآيات الكريمة ما يلفتنا إلى معنى -أرجو الله أن يكون موافقاً لمراده- أن الميثاق مع الله كان من الصادقين الذين صدقوا مع الله فأخلصوا التوكل عليه حق توكله، وصدقوا مع أنفسهم فآمنوا بها وعملوا فى الدنيا وأعمروها طاعة لله وإيماناً بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أما الكافرون المعاندون فقد وثقوا أيضاً فى أنفسهم -التى وهبها الله لهم- ولكنهم استغنوا بأنفسهم عن الله والتوكل عليه، فكانت ثقة الكبر والعزة والجبروت فعاثوا فى الأرض فساداً وجادلوا فى آيات الله فطبع على قلوبهم بالكفر، قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (الآية 35 من سورة غافر)
فمن عرف ربَّه بكماله وجلاله وجماله، وعرف نفسَه بجهله وعجزه وفقره أمام الله، وليس أمام خلقه، فقد حسُن توكُّله وتفويضُه، وكانت ثقته فى ذاته بتوفيق الله وعونه أقوى فى رفع همته وحصول سكينته وشعوره بالتفاؤل من الذى فرَّ من العجز بترك الإيمان بالله والتوكل عليه إلى نوع آخر من العجز والخذلان يتمثل فى الاعتماد فقط على نفسه الضعيفة العاجزة أمام قدرة الله.
فالثقة بالنفس والقدرات الذاتية فقط من دون التوكل على الله هى عين الخذلان والظلم والفشل.. لأنها ستكون ثقة بمخلوق لله، والله قادر على أن يسلبها، فيصبح القادر عاجزاً فى طرفة عين، وإذا لم يوجد عون وتوفيق من الله للعبد فأوَّل ما سيقضى عليه ستكون ثقته بنفسه المجردة عن التوكل على الله.
إن افتقار العبد إلى ربه وحاجته إليه لا يعدلها حاجة، ونعيمه بعبادته لا يعدلها نعيم، ولا يستطيع الإنسان جلب ما ينفعه ودفع ما يضره إلا بالاستعانة بالله سبحانه والتوكل عليه...
يا الله....
لا أثق إلا برحمتك....؛
وأبرأ من حولى وقوتى....
إلى حولك وقوتك فثَمَّ النجاح والتوفيق والسداد....؛
﴿وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.....