من التفرقة العنصرية إلى الديمقراطية.. بلد يداوى جراحه
أقلعت الطائرة من القاهرة متجهة إلى جنوب أفريقيا فى ظلام الليل، حيث لا يبدو طوال الرحلة غير القمر يُطل من ناحية الغرب وأضواء خافتة من مدن أفريقية تظهر من وقت إلى آخر. وصلنا إلى مدينة ديربان على ساحل المحيط الهندى، شىء مبهر من النظافة والنظام والجمال لا يقل أبداً عن أى مدينة أوروبية، والعاملون فى كل المرافق من السود الذين يشكلون 60% من السكان، بينما يشكل الهنود 20% والبيض والملونون 10%، وهناك 11 لغة رسمية فى البلاد، ولكن أكثرها تداولاً هى اللغة الإنجليزية التى يتحدث بها غالبية السكان، وهذا يُسهّل تواصلهم مع العالم. ومدينة ديربان جوها معتدل طوال العام، وحديقة جنوب أفريقيا يمتد شاطئها لحوالى عشرين كيلومتراً، وهو محاط بالكامل بشبكة تمنع تسلل أسماك القرش من المحيط، وهذه الشبكة يتم الاطمئنان على سلامتها كل يوم بواسطة فريق من الغواصين.
المرشدة السياحية «توجو» سيدة بدينة سمراء خفيفة الظل وتنتمى إلى قبائل الزولو (السكان الأصليين لجنوب أفريقيا) تتحدث عن بلدها بحب وانبهار وتظهر أجمل ما فى هذا البلد، وتجعلك تشعر أنه بكل ما فيه أجمل بلد فى الدنيا، فهى محبة لوطنها، بل منبهرة به وبتاريخه وعاداته وتقاليده.
وفى يوم المؤتمر لاحظنا جمال قصر المؤتمرات والدقة والانضباط فيه، فكل الجلسات (عكس ما يحدث فى مصر) تتم فى موعدها تماماً بالدقيقة والثانية. وقد بدأت الجلسة الافتتاحية بكلمة لرئيسة جمعية الصحة النفسية للأطفال والمراهقين بجنوب أفريقيا استهلتها بالعبارة العظيمة للزعيم الأفريقى الكبير نيلسون مانديلا: «Forgive but not forget»، وكأن هذه الكلمات تلخص فلسفة هذا الشعب الذى عانى مرارات ومآسى التفرقة العنصرية وإذلال الأقلية البيضاء للأكثرية السود أصحاب الأرض الأصليين، ولكن الحق يقال، فالأقلية البيضاء خططت ونظمت هذا البلد وجعلته قطعة من أوروبا، نظافة وجمالاً وانضباطاً. ولقد بدأوا طريقهم إلى الديمقراطية فى أوائل التسعينات، وبدأت تؤتى ثمارها فى بدايات القرن الواحد والعشرين، وعلى الرغم من جراحاتهم الكثيرة ومشكلاتهم العديدة، فإن القيم الديمقراطية التى ترسّخت وهيّأت لقبول التعددية والاختلاف وتبادل السلطة قد جعل هذا البلد فى مصاف الدول المحترمة التى حققت تطوراً هائلاً فى كل شىء، ولا ننسى أنه البلد الذى خطف منا فرصة استضافة مونديال كرة القدم 2010، حين حصلنا على تقدير صفر، بينما حصلت جنوب أفريقيا على تقدير مرتفع، واستضافت المونديال، ومن يذهب إلى هناك يعرف أن هذا البلد يستحق ذلك.
وترى الناس يتوافدون على جنوب أفريقيا من كل مكان من العالم ويحتفون بها، وهذه هى أفريقيا القارة التى يعرف الجميع مستقبلها، وما تحمله من إمكانات النهضة والثروة وما ينبئ به مستقبلها، ولهذا هرع إليها الغربيون والآسيويون والإسرائيليون، ولكننا فى مصر تعالينا عليها واعتبرنا أهلها سوداً متخلفين، ونظرنا إليها على أنها مجموعة من الغابات ومستنقعات المياه وحشائش السافانا والوحوش المفترسة.
ولأول مرة يُعرض هذا المؤتمر الدولى الكبير على أرض أفريقية، وكانت رئيسته طبيبة شابة من نيجيريا واسمها «أولاينكا» وهى شخصية شديدة الجاذبية والتألق تشارك فى أغلب الجلسات العلمية، وفى الحفلات تغنى وترقص وتعزف على الجيتار. شعرت بحسرة وأسى أننا فى مصر فقدنا جاذبيتنا السياحية والعلمية وفقدنا تأثيرنا الدولى وغرقنا فى صراعاتنا ومشكلاتنا وغرقنا جميعاً فى بحر من الظلام رغم ما لدينا من إمكانات وملكات، وهكذا الدنيا لا تحابى الكسالى والغافلين.
وثمة نظام صارم فى العلاقات والزواج كان يحكم أفراد قبيلة الزولو (الذين زرناهم فى إحدى قراهم) قد تحوّل مع الديمقراطية إلى أشكال أكثر مرونة، فمثلاً كان النظام السائد (وما زال فى بعض الأماكن) أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة قد تصل إلى 5 زوجات وزعيم القبيلة يستطيع أن يتزوج 10 زوجات، ولكى يتزوج الرجل عليه أن يدفع بإحدى عشرة بقرة لوالد العروس، ولهذا يفرحون بإنجاب الفتيات، لأن كل فتاة تشكل ثروة لأبيها حين زواجها، وتقدر قيمة الرجل فى قبيلة الزولو بما يملكه من أبقار وما ينجبه من فتيات. والآن أصبح الأمر حتى فى الزواج يخضع للقيم الديمقراطية، حيث يتم بالتراضى بين الفتى والفتاة بعيداً عن القيود الصارمة للقبيلة.
والعلاج فى جنوب أفريقيا مكفول مجاناً فى المستشفيات الحكومية، خصوصاً لكبار السن والأطفال، أما من يريد أن يُعالَج فى مستشفى خاص، فعليه أن يدفع 50%، بينما يغطى التأمين الصحى الـ50% الباقية. والدولة تكفل لأى شخص فقير منزلاً مجانياً مكوناً من غرفة وصالة ومطبخ ودورة مياه (استوديو)، وهذه المنازل نظيفة وجميلة ومتناسقة (عكس المساكن الشعبية لدينا فى مصر).
وثمة اهتمام كبير بالمحميات الطبيعية كالغابات والهضاب والجبال والوديان وقرى القبائل الأصلية ويستفيدون من كل ذلك فى الترويج والنشاط السياحى. الشىء الوحيد الذى يُزعج الزائر لهذا البلد هو ضعف الأمان هناك، خصوصاً لمن يمشى وحيداً أو يمشى بعد غروب الشمس، فهو عرضة للسطو المسلح.
وعلى الرغم من المقارنة المؤلمة بين ما يجرى هناك وما يجرى هنا، فإننا اشتقنا للعودة إلى مصرنا الحبيبة كعادتنا.