جريمة ترعة سقارة.. وجريمة كوبري قصر النيل

بين كوبرى قصر النيل فى قلب القاهرة وقرية «العزيزية» بالبدرشين مسافة لا تزيد على 20 كيلومتراً فقط، وكوبرى قصر النيل هو الأقرب لكاميرات التليفزيون وعدسات المصوّرين، وقد وقعت جريمتان على الكوبرى وفى القرية فى توقيت متقارب، ومع ذلك انتفضت برامج التليفزيون ضد أهالى القرية، وسارع البعض إلى المطالبة بتوقيع عقوبات قاسية على الأهالى.. بينما ظلت جريمة قصر النيل طىّ الكتمان حتى الآن!

والذى حدث فى قرية العزيزية أصبح معروفاً للكثيرين، فقد نشرت بعض صفحات «الفيس بوك» مجموعة من الصور لترعة سقارة البحرية بعد تطهيرها وتنظيفها من تراكمات القمامة وتبطينها، وإلى جوارها صور أخرى للترعة وقد امتلأت مرة أخرى بالقمامة، وكادت تعود إلى سيرتها الأولى: مجرد مجرى مائى راكد تتكدس فيه أطنان من القمامة المتحللة التى تنبعث منها روائح كريهة وتتكاثر فيها الحشرات والقوارض والزواحف وتنطلق منها حشود هائلة من أسراب الذباب والبعوض، وتتخلف متبقياتها السامة فى الزرع والضرع لتصيب كل من يعيش عليها بجملة أمراض مزمنة.

وكان طبيعياً جداً أن تلتقط برامج التليفزيون هذه الصور، وأن يشعر كثيرون بإحباط شديد وهم يطالعون هذه الكارثة التى وقعت بعد شهرين فقط من تطهير وتبطين الترعة، وأن يتوقف آخرون أمام هذه الجريمة باعتبارها سلوكاً قد يتكرر فى كل ترع ومصارف مصر التى يخضع معظمها الآن لأكبر عملية تطهير وتبطين وتجميل فى تاريخ مصر المعاصر، وهى عملية تهدف إلى إنقاذ شرايين الوطن من انسداد مزمن وتلويث إجرامى، عانت منهما مصر لأربعة عقود متصلة، تحولت خلالها الترع والمصارف من شرايين تمد الغيطان والبيوت بأسباب الحياة والنماء والجمال، إلى مباءات قذرة تنشر الأمراض وتُسمم الزرع والضرع.

والمدهش فى جريمة «ترعة سقارة» أن أهالى قرية العزيزية التى تقطعها الترعة، ظلوا لأكثر من عشرين عاماً يستغيثون بالمسئولين لإنقاذهم من قذارة هذه الترعة تحديداً، ولا يكاد يوجد برنامج تليفزيونى لم يرسل الكاميرا إلى هناك لرصد عذابات هؤلاء الناس من المشاهد البشعة التى تدمر صحتهم وتنشر الأوبئة والأمراض المزمنة بينهم، والمثير فى كل التقارير التليفزيونية التى تم إعدادها من هناك، أنها كانت دائماً تتوقف عند المعلومات التاريخية التى تشير إلى أن «العزيزية» بالبدرشين هى أقدم قرية مصرية، وأنها كانت جزءاً أساسياً من أول عاصمة عرفتها الإنسانية هى «منف»، وأنها أخذتْ اسمها من «عزيز مصر» أو وزير الملك الذى كان يعيش فيها، وأنها تنهض على كنوز أثرية هائلة لم يكتشفها أحد حتى الآن. ورغم هذه العراقة، وبعد كل هذه العذابات التى دمرت حياة سكان العزيزية، إذا بنا نصحو على هذا الإهمال الإجرامى الذى دمر جمال الترعة بعد تنظيفها وتبطينها، وكاد يحولها مرة أخرى إلى مستنقع قبيح.

الأمر إذن فى حاجة إلى تفسير يضع الأيدى على المنبع الحقيقى الذى تسبب فى هذه الجريمة، ليس فقط لمنع أهالى العزيزية من تكرارها، ولكن لوضع آليات تمنع أهالى مئات القرى الأخرى من تخريب هذا المشروع القومى الرائع. وإذا كان كثيرون قد طالبوا بتشديد عقوبة تلويث مجارى مياه الرى والصرف، فإن عشرات الخبرات المماثلة تؤكد أن الأمور لا تستقيم أبداً بتشديد العقوبة، ولكن توفير صناديق لتجميع القمامة فى القرى والمدن، وتوفير معدات لرفعها ونقلها وتجميعها فى مدافن صحية، وإقامة مشروعات لتدويرها وتحويلها إلى مواد نافعة اقتصادياً، هو الحل الوحيد لعدم تكرار هذه الجريمة، وهو حل يمكن إتاحته فوراً فى كل قرى مصر، إذا انتبه وزير التنمية المحلية والمحافظون ووزيرة البيئة ومسئولو صندوق المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، إلى أنهم الأكثر قدرة الآن على إنجاح أو إفشال مشروع تأهيل ترع ومصارف مصر، وأن عملية التطهير والتبطين كان لا بد أن يتزامن معها أو يسبقها مشروع قومى عملاق لتجميع قمامة البيوت فى مدافن صحية واستثمارها فى عشرات المشروعات التى تخلق ملايين فرص العمل لمواطنى القرى والمدن.

الجريمة الثانية التى وقعت على كوبرى قصر النيل فى توقيت متزامن مع جريمة تلويث ترعة سقارة بالقمامة، انتبه إليها مهندس معمارى مثقف وقام بتوثيقها وأرسل الصور لعدد من معارفه الإعلاميين، ومعها رابط صفحة الدكتور مصطفى وزيرى رئيس المجلس الأعلى للآثار، الذى كتب على صفحته منشوراً فى 15 فبراير الماضى أعلن فيه عن انطلاق حملة تنظيف وصيانة تماثيل الميادين العامة بالتعاون مع محافظات الجمهورية، وقال «إن أعمال التنظيف والصيانة تتم بأيادى مرممى المجلس الأعلى للآثار لإبراز جمال هذه التماثيل». وقد حرص الدكتور مصطفى وزيرى، على نشر مجموعة صور مع المنشور السابق يظهر فيها وإلى جواره بعض مرؤوسيه، وهو يستخدم «فرشاة» يغمسها فى علبة «بوية» سوداء، ويقوم بنفسه - وهو ليس خطاطاً ولا مرمماً - بدهان النص التأسيسى المحفور على الجرانيت أسفل أسدَىْ الكوبرى، بالبوية السوداء. ويقول المهندس المعمارى إنه ذهب بنفسه إلى كوبرى قصر النيل وعاين اللوحتين اللتين تم دهانهما، فإذا به - وهو الدارس والعاشق للخط العربى - أمام كارثة مروعة شوهت الخط الفاتن الذى كتبه قبل 88 عاماً، الخطاط المصرى الرائد مصطفى بك غزلان خطاط ملك مصر فؤاد الأول ورئيس التوقيع بالديوان الملكى.

عُدت على الفور، بعد مطالعة رسالة وصور المهندس المعمارى، إلى محرك البحث «جوجل» لأكتشف أن مصطفى بك غزلان كان واحداً من أمهر الخطاطين فى كتابة الخط الديوانى، وأنه أدخل عليه تعديلاً جمالياً تم تسجيله باسمه، يُعرف الآن باسم «الخط الديوانى الغزلانى»، ومن مآثره الخطية لوحات قاعتىْ العرش فى قصرىْ عابدين (بالقاهرة) ورأس التين (بالإسكندرية)، وكتابة خطوط كسوة الكعبة المعظمة التى كانت مصر ترسلها إلى الحجاز.

والحقيقة أننى وقفت مذهولاً أمام هذه الكارثة، وخصوصاً بعد أن عرفت أن المجلس الأعلى للثقافة أحيط علماً بها ولم يفعل شيئاً، وأن نقابة الخطاطين المصريين علمت بما حدث، وحتى الآن لم يجرؤ أحد على سؤال مصطفى وزيرى - وهو غير المتخصص فى الخط أو الترميم - حول دوافعه للقيام بهذا العمل الكارثى.. ولماذا لم ينتدب خبير خطوط لصيانة النصوص التأسيسية المحفورة فى الجرانيت أسفل تماثيل الميادين؟.. ومن الذى أوحى له بأن رئاسته للمجلس الأعلى للآثار تمنحه الحق فى «شلفطة» نصوص تأسيسية كُتبت بمداد من نور؟!.

وإذا كانت وزارة الموارد المائية والرى قد سارعت إلى إزالة الاعتداء الإجرامى على ترعة سقارة، وأعادتها إلى ما كانت عليه من نظافة وجمال، فهل توجد جهة مسئولة أخرى تستطيع أن تزيل «البوية السوداء» عن النص الديوانى الغزلانى وأن تعيده إلى سابق عهده كما كتبه صاحبه.. إنّ أخشى ما أخشاه أن يكون تشويه النص التأسيسى لكوبرى قصر النيل، من الكوارث التى لا يمكن علاجها أبداً.

بالطبع سأكون سعيداً إذا قامت قيامة البرامج التليفزيونية وإذا اهتم المسئولون بما حدث على كوبرى قصر النيل، وإذا أسفر الاهتمام عن إزالة هذا الاعتداء الاستعراضى، واستعادة بهاء وروعة «الخطوط الغزلانية»، وإرغام الدكتور وزيرى على عدم تكرار هذه الكارثة واللجوء للمختصين فى ترميم الخطوط وصيانتها بدلاً من ترك تراثنا وكنوزنا الأثرية والفنية فى أيدى الهواة والاستعراضيين!.