يسار دار الإفتاء

الفارق كبير بين أن تكون حكماً حكيماً وبين أن تكون طرفاً متورطاً، لكن هل تدرك دار الإفتاء المصرية ذلك؟

ليس خافياً على أحد هذه المأساة الملهاة التى باتت تحكم علاقة المصريين -كثير من المصريين- على وسائل التواصل الاجتماعى بالحساب الرسمى لدار الإفتاء المصرية وما ينشره من فتاوى وتعليقات على الشأن العام تحاول التأصيل لها شرعياً قدر المستطاع.

فالمأساة ليست فى رفض كثير من المصريين من غير الدارسين المتعمقين للعلوم الشرعية وشبكاتها المتصلة والمعقدة، للآراء الفقهية الصادرة عن الدار، بل فى الواقع الذى احتوى «الإفتاء» وابتلعها حتى صارت طرفاً فى الخناقة لا مجرد معلق أنيق حكيم بعيد.

فالاعتراض الذى يواجه فتاوى الدار، وتغلفه كثيراً سخرية هزلية بتعليق المعلقين «إنتو هتفتوا؟»، ليس وليد اللحظة، فهو نتاج عقدين أو ثلاثة من تسليم المصريين للسلفيين -بأطيافهم المختلفة ومسمياتهم الكثيرة- بفتاواهم وعالمهم المتخيل ومحرماتهم التى تملأ ما بين الأرض والسماء، حتى بات كل شىء فى الحياة أقرب للحرام منه للحلال فى وجدان المصريين.

ومن ثم تبدو الآراء والفتاوى الصادرة عن الدار كما لو كانت تملصاً وتنصلاً من صحيح الدين وصارمه كما صور السلفيون للمصريين، حتى باتت الدار مطالبة بالتوضيح المعمق الذى بنت بموجبه آراءها، وفى الوقت ذاته تبدو الصنعة العلمية للإفتاء، مبهمة ومشفرة للجحافل التى طالما رعت فى مزارع تسمين السلفيين.

أنت اليوم تجنى حصاد الأجيال التى باتت تنظر للدين والدنيا من وراء النظارة السلفية السوداء، التى تصغر الكبير وتكبر الصغير ولا تصور أمراً بحجمه الطبيعى أبداً.. لخللها فى التلقى وفسادها فى التكييف وخبالها فى الاستخلاص وجهلها العضوض بالأمر الواقع وبالإنسان وبكل ما يملأ ما بين الأرض والسماء من موجودات ومفردات.

ثم من ناحية أخرى، تجنى الإفتاء جزاء تورطها فى الشأن العام (من أطرافه لأطرافه) بكثرة التعليق والتداخل مع الشئون الجارية، سياسية واجتماعية، بما وضعها ووضع صورتها وآلتها العلمية فى قلب الخناقة الدائرة حتى باتت طرفاً أصيلاً لا مراقباً مهموماً ومعنياً.

هناك فارق ضخم بين أن تكون حاضراً وبين أن تكون متورطاً.

كثرة التعليق التى تمارسها صفحة الإفتاء على فيسبوك، أطاحت بالكثير من وقارها، فتحول الرأى -نتفق ونختلف معه- كأى رأى فى الضجيج الذى يملأ أركان مصر منذ عشر سنين.

ومهما كان «الرأى» مؤصلاً فقهياً، فهو وسط الخناقة مجرد رأى. لا يكفى أن يتمترس بفقه أبى حنيفة أو رأى الشافعى أو مسند أحمد كى يتحصل على حصانة ما فى هذه العركة البلدى الفوضوية.

ثم هناك هذه الأجواء الملبدة التى تخيم على بلادنا والتى تجعل من كل رأى، مهما كان قائله، شخصاً أو جهة، مسألة قابلة للاستدراك والمزايدة من أحدهم (أى أحدهم!)، فيبدو الرأى خُنوعاً والقول تقهقراً والقناعة تراجعاً والموقف مماشاة وخوفاً.

لم يعد هناك سقف لأى شىء.. فالجميع من حقه التعليق، والجميع من حقه المزايدة.. ومتى وقف أحد على يسار موقف ما، أياً كان جنوح الموقف وتطرفه، صار هذا الموقف المتطرف يميناً فى حد ذاته.

وهكذا إلى ما لا نهاية.. كل يسار يتحول ليمين بمجرد تعليق أو موقف من أحدهم، مهما كان هذا الـ«أحدهم» أخرق أو جاهلاً. فبقوانين السوشيال ميديا يصير هذا الرأى يساراً جديداً يلح بانتزاع احترامه وتفهمه من الجميع باعتباره الأقرب للنقاء الثورى والأدنى للغضب النقى وللفطرة البريئة.. والمتاخم لروح القصاص من المظالم العالقة التى تريد من يحسمها، ليملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً!

ووسط هذا السيرك، تريد الإفتاء -وسط رعايا السلفيين- ألا تخوض معركة فقهية على المعالم التى تم تشويهها على مدار العقود الماضية فحسب، بل أن تتورط فى السياسة والأحداث الجارية، فتواجه السلفيين وتواجه الغاضبين جميعاً من كل اتجاه، فى عالم لا يحكمه قانون بعينه قدر قانون المزايدة.. فتصير كل مواقفها يميناً مستفزاً.

ثم ليسائلها الذين لا يؤمنون أصلاً بأن من دورها التعرض للحياة العامة والمواقف السياسية والاجتماعية، من خلصاء العلمانية: لماذا أنتم هنا أصلاً تصولون وتجولون؟

اختارت الإفتاء -برأيى- أن تخاطب جمهورها الأكثر وفاء لها.. أن تخاطب الألتراس الذى يدير ظهره للمباراة ويشجع فريقه المحبوب.. فى حين تتورط كطرف أصيل فى خناقة مع الجميع تقريباً.