عودة الروح إلى الريف المصرى
كلما كتبت مقالاً، أو تحدثت فى لقاء تليفزيونى، عن الريف وأهله، تنهال علىّ المكالمات والرسائل التى تفرحنى وتحزننى فى آن واحد. أما الفرح، فمصدره أن هذا التفاعل يؤكد لى مرة أخرى، صحة التوجه الذى آمنت به طيلة حياتى المهنية عن أن كل أرقام التنمية الاقتصادية وكل المشروعات مهما بلغت ضخامتها، لا قيمة لها فى الحقيقة إلا إذا تساقطت ثمارها فى أيدى المواطنين فى الريف، وإلا إذا أتاحت لأهالى القرى والكفور والنجوع فى الوادى والدلتا والمدن الإقليمية فى عموم مصر، عملاً منتجاً ودخلاً كريماً وحياة لا يهددها الفقر أو المرض أو الظلم الاجتماعى بكل أنواعه.
أما مصدر الحزن فهو أننى عانيتُ أشد المعاناة طيلة ثلاثة عقود، من الفهم الخاطئ والجهول الذى اعتنقه - وما زال يعتنقه - كثيرون من أبناء المهنة التى أنتمى إليها: وهم للأسف إعلاميون وصحفيون كبار وصلوا إلى مراكز صنع القرار وتوجيه الرأى العام، واختاروا - عن جهل أو مرض نفسى - أن يكونوا مجرد أدوات لتسويق أفكار تافهة عن الريف وأهله، كانت سبباً رئيسياً فى صناعة تشوهات عميقة أدت إلى مزيد من إفقار وتخريب الريف، ومزيد من إفشال عشرات المشروعات القومية الكبرى التى استهدفت تنمية الريف، وحاولت تطويره وإتاحة التمويل الكافى لإنقاذ أهله من البطالة الإجبارية، لكنها انتهت بانهيار كل مقومات الإنتاج والتسويق العادل لمنتجاته.
ولعل ملايين المواطنين يتذكرون جيداً آلاف الموضوعات الصحفية والرسوم الكاريكاتيرية التى دأبت خلال الأربعين عاماً الماضية، على تصوير الفلاحين بأنهم كَفُّوا عن العمل والإنتاج، ويسهرون أمام مسلسلات التليفزيون وبرامجه إلى ما بعد منتصف الليل، وما زلت أتذكر بحزن بالغ الرسوم السخيفة التى تكررت عشرات المرات، لفلاح يمتطى حماره وأمامه جهاز تليفزيون ويضع «إيريال» التقاط الإشارة على كتفيه أو على مؤخرة حماره!
كنت صغيراً فى السن وفى المهنة، عندما جرؤت على مناقشة أساتذة كبار فى هذا التصور الجهول لما حدث ويحدث فى الريف المصرى، ولكننى فى كل مرة كنت أخرج من النقاش يائساً ومتقززاً من هذا العناد الغبى الذى أنتج صورة ذهنية راسخة راحت تنتقل من جيل إلى جيل، ومن الصحافة إلى الإذاعة والتليفزيون، حتى جاءت سنوات سمعت خلالها عشرات المرات من يتحدثون عن انعدام جدوى الكتابة عن الريف لأن أهله لا يقرأون ولا يشترون الصحف، وانعدام جدوى إعداد حلقات تليفزيونية عن تدهور الحياة فى الريف، لأنه لم يعد لدينا ريف من الأساس، ثم اتضح لى بعد مراقبة متأنية أن أصحاب هذا التصور تحولوا إلى «مليونيرات» فى سنوات قليلة من الاهتمام المكثف بأخبار وقضايا البورصة وأسواق المال وأسعار الذهب والدولار!.
والحقيقة أن بعض الذين اعتنقوا هذا التصور لم يحققوا استفادة مادية من ورائه، فقد كان هناك، وما زال، بيننا زملاء وأساتذة، وقعوا ضحايا النشر المكثف والمغلوط عن الريف وأهله فى الوادى والدلتا، ولم يفهموا أبداً أن التطور التكنولوجى والصناعى الذى شمل العالم كله، قد امتد أيضاً ومنذ أكثر من نصف قرن إلى الريف المصرى، وأن الانتشار العشوائى وغير المدروس لهذا التطور، والفساد الرهيب للإدارات المحلية المتعاقبة، وغياب التخطيط القومى للاستفادة من الطفرات الصناعية، كانت سبباً فى ضياع نصف قرن كامل من خطة النهوض بالإنتاج فى الريف، وضياع نصف قرن أيضاً من استفادة الدولة من التطور الزراعى والإنتاجى الذى حدث ويحدث فى الريف، وهو ضياع تسبب فيه عشرات المسئولين الكبار الذين تركوا إنتاج الريف يتعفن لأنهم اختاروا من أول لحظة أن يوفروا احتياجات المواطنين من الغذاء والكساء من الاستيراد.. ولا يمكن لأحد - مهما بلغ من السذاجة - أن يتصور وجود مسئول واحد يفضل الاعتماد على السلع المستوردة، دون أن يكون مستفيداً من هذا التوجه الإجرامى.
إننى أتذكر الآن العديد من المآسى والكوارث التى غدرت بالفلاحين والمنتجين الحرفيين فى كل محافظات مصر، وكان وراءها دائماً مسئول فاسد وحفنة تجار فسقة، كان الكسب السريع أهم لديهم آلاف المرات من المصلحة الوطنية، وقد أغرقوا الأسواق بمنتجات غذائية وسلع عديمة القيمة ربحوا منها المليارات، فى الوقت الذى دمروا فيه المنتجين المصريين وقضوا على عشرات الحرف التراثية البديعة بالاندثار، وأرغموا آلاف الفلاحين على إعدام إنتاجهم الراكد.
والآن، وقد اتجهت بوصلة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى السواد الأعظم من الشعب المصرى، وانتفضت الحكومة برئيسها ووزرائها لتنفيذ خطة تطوير الريف، بعيداً عن الإدارات المحلية التى استوطنها فساد مزمن، ووفق برنامج زمنى صارم، ومتابعة يومية من الرئيس ورئيس الوزراء، الآن، أصبح واجباً على عموم «الميديا» فى هذا البلد، أن تعتنق هذا التوجه المبهر، وأن تنتشر الكاميرات والأقلام فى كل شبر من أرض الوطن لترصد وتتابع هذا الإنجاز المفرح، الذى لم يكتفِ برصف الطرق المؤدية إلى القرى، ومد شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحى إليها، ولكنه بالإضافة إلى ذلك وضع خطة ملهمة لحصر الحرف التراثية فى كل مركز، وبناء مجمعات حرفية لأصحاب هذه الحرف التى قاربت على الاندثار، وإنقاذ أهلها من الإحباط القاتل الذى دفع الغالبية العظمى منهم إلى هجرانها والنزوح إلى المدن بحثاً عن فرصة عمل متدنية القيمة والأجر بدلاً من الموت قهراً وجوعاً.
إن وضع هذا المشروع القومى الضخم تحت مجهر المتابعة الإعلامية المستمرة، سيحقق على الفور العديد من المزايا، لعل أهمها إتاحة الفرصة للمستفيدين من هذا المشروع للمشاركة فيه بالرأى والمشورة، لأنهم أدرى بما يحتاجونه، وأكثر وعياً وخبرة بما هو مفيد لهم، كما أن المتابعة الإعلامية للمشروع ستحميه من كل السلبيات التى عايشناها طوال العقود السابقة، والتى تسببت فى ضياع المليارات فى جيوب المقاولين والمستشارين والخبراء، ولم يعد مقبولاً أبداً أن نخصص أكثر من 500 مليار جنيه لتطوير 4500 قرية فى 3 سنوات، دون أن تحقق عائداً استثمارياً يصل إلى عشرات أضعاف هذا التمويل الضخم.
أما الأهم من هذا كله، فهو أن خريطة الخراب التى نعاينها يومياً ونتعذب بمآسيها، تفرض علينا فى كل لحظة أن ننتبه أشد الانتباه إلى أننا فى مصر أحوج ما نكون إلى بعث روح الانتماء لهذا البلد، وتوعية أهله بمخاطر المؤامرات التى تحاك له، وقد أصبح فى حكم اليقين أن مشاعر الانتماء لا يمكنها أن تعيش على الشعارات مهما كانت بلاغتها، ولكنها تعيش وتنمو بالأساس على خطة اقتصادية تتيح للغالبية العظمى من الشعب الإحساس بالاستقرار المعيشى والأمان المادى وجدوى الحياة وكرامتها، وفى ظنى أنه لا يوجد مشروع قومى يمكنه أن يحقق ذلك، وفى مدى زمنى قصير، غير هذا المشروع المبهر الذى طرحه الرئيس لتطوير الريف المصرى.