فرش قصر اللورد مارش.. «القطان» مر بحروب وكورونا: 90 سنة سجاد «فيديو»

كتب: سمر صالح

فرش قصر اللورد مارش.. «القطان» مر بحروب وكورونا: 90 سنة سجاد «فيديو»

فرش قصر اللورد مارش.. «القطان» مر بحروب وكورونا: 90 سنة سجاد «فيديو»

مبنى أثري تحمل واجهته لافتة كبيرة تقود الزائر إلى سيرة عمرها 90 عاما لأمهر حرفيي السجاد اليدوي في مصر، لكل واحد منهم حكاية خاصة، شبّوا وشابوا على الحرفة، أوتار الأنوال شغفتهم حبا فأبدعوا في تنفيذ أشكال وأحجام متفاوتة من السجاد عبروا بها حدود الوطن ووصل صداها إلى القصر الملكي البريطاني، اجتازوا أزمات عتية، حرب عالمية وكساد اقتصادي وثورة ضد الملكية صامدين حتى سلموا الأمانة إلى الأحفاد صانوا الامانة هم الأخرين.

لافتة كبيرة على ناصية أحد الشوارع الرئيسية بحي كوبري القبة الراقي، تحمل اسم «مصنع القطان»، ألوانها الباهتة وشقوق الجدار الذي يحملها تثير فضول المارة، خطوات قليلة يقطعها الزائر إلى الداخل حتى يكتمل أمامه المشهد، الساحة الرئيسية تبدو كخلية نحل لا تهدأ، جدران المكان التاريخي بهت لون طلائها من أثر الزمن، الممرات تفوح منها رائحة التاريخ وقد اختلطت برائحة النسيج، بين جنباتها أكوام متراصة من السجاد المصنوع بحرفة عجوز ماهر احترف مهنته وأفنى بها عمره، يجاوره صبي يافع يتشرب منه المهنة، خشية اندثارها أبى الحفيد «محمد القطان» أن يغلق أبواب المكان استسلاما لحالة الكساد والركود التي تعانيها الحرفة في وقتنا الحالي.

المكان جرى بناؤه في عصر الأسرة العلوية وعام 1930 تم تخصيصه كمصنع سجاد يدوي

«المكان مبني من عصر الأسرة العلوية من حوالي 200 سنة، جدي أحمد فهمي القطان بك اشترى الأرض سنة 1930، وخصصها للمصنع وتولت والدتي من الجيل التاني إدارته بعد وفاته في الخمسينات»، يقول محمد القطان الحفيد والمدير الحالي للمصنع في بداية لقاء «الوطن» به داخل المكان المسجل على قائمة الآثار عن نشأة المصنع الذي تولى إدارته بعد تقاعده من عمله بالقوات الجوية.

خيال الحفيد كسر حاجز المألوف، لا يزال محافظًا على مقتنيات المكان، حريصا على فتح أبوابه الخشبية المتهالكة في موعد محدد من كل يوم، «حب السجاد ده في دمي، هنا اتعلمت المشي وركوب العجل وأنا طفل ورغم كل الأزمات وندرة العمالة المكان ده هيفضل مفتوح» ، يستكمل الرجل الستيني حديثه وتلمع عيناه وكأنها علاقة حب أبدية تربطه بالمصنع الذي يحتضن ذكرياته ويسكن كل ركن بذاكرته.

القطان أول مصنع متكامل للسجاد اليدوي بمصر

«القطان للسجاد» هو أول مصنع متكامل للسجاد اليدوي بمصر، بأسلوب حميمي وافر التفاصيل يشرح القطان الحفيد كيف كان حال المصنع قديما في ثلاثينات القرن الماضي، كما سمع في روايات جده ووالديه الراحلين، «كان أول مصنع متكامل في مصر بتدخل فروة الخروف زي ماهي بتطلع سجاد يتباع بالآلاف بعد تحويلها لخيوط صوف»، في مراحل إنتاج متعددة بأيدي عمال مهرة بلغ عددهم 150 عاملا وعاملة في بداية عهد المصنع، بحسب روايته.

على طول المسافة من الساحة الخارجية للمبنى الأثري إلى أروقته الداخلية، يروي القطان الحفيد في رحلة عبر الزمن مراحل تصنيع السجاد اليدوي، التي تبدأ برسمة على ورق أبيض مربعات بواسطة رسام سجاد متخصص كل مربع منهم يمثل عقدة على النول، يراعي في تصميم الشكل مساحة السجادة المطلوبة، يتولى من بعده العامل المحترف وضع الخيوط على النول.

«الخيوط بتكون قطن أو صوف أو حرير»، ثم يبدأ في محاكاة شكل الرسمة بالخيوط عازفا على أوتار النول بأصابع يديه، ويتولى من بعده شخص آخر قص الزوائد من السجادة وصولا إلى مرحلة التنعيم الأخيرة والسرفلة حتى تكتمل السجادة كلوحة فنية كل جزء بها مرسوم بريشة فنان متمكن لا تحيد ريشته عن الخط.

المصنع يضم ماكينات غزل صوف يعود تاريخها إلى عام 1934

خلال جولة الزائر بالمصنع يقع على مرمى بصره ماكينات غزل صوف مغطاة بأكوام من التراب، تبدو من بعيد كمكان مهجور يخشى الجميع دخوله، رائحة الصدأ تفوح منه، يشير«القطان الحفيد» بأصابع يده اليمنى إليه فتتجلى لافتة معدنية مثبتة أعلى إحدى الماكينات تحمل كلمات مقتضبة تشي بمكانتها التاريخية «ماكينات غزل إنجليزي- 1934»، طراز لم يعد له مثيل في عصر النسيج الحالي، قطعة أثر يطل عليها القطان الحفيد كل يوم كعجوز هرم يطل عليه أحفاده من حين لآخر لتضميد جسده النحيل.

«المكن ده إنجليزي أصلي مبقاش موجود خلاص كان شغال من التلاتينات ووقفنا العمل بيه في الثمانينات بعد شكوى السكان من صوت الرجرجة والدوشة اللي كان بيعملها»، يصف الحفيد الماكينات النادرة، مناشدا أحد المختصين بترميمه وتلميعه ليصبح مزارًا لمحبي المنسوجات اليدوية.

داخل مكتبه الذي لا يزال محافظًا على مقتنياته، جلس الرجل الستيني ليستكمل روايته عن المكان الأثري، فواتير مكتوبة بخط اليد ومجلات يعود تاريخها إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، أخرجها الحفيد من دولاب خشبي على الطراز الملكي ينفض عنها التراب قليلا فتتجلى كلمات مسطورة على الأوراق المصفرة، كل كلمة منها تبدع في وصف تاريخ المصنع وتروي حدث جلل اهتم بشأنه حينها الصحف العالمية.

من هنا خرجت قوافل السجاد إلى أوروبا لتشارك في معارض عالمية

من هنا خرجت قوافل السجاد في طريقها إلى دول القارة العجوز لتشارك في معارض السجاد العالمية بألمانيا وبريطانيا وفرنسا، حتى ذاع صيت سجاد القطان و وصل صداه إلى قصر اللورد مارش البريطاني، ابن عم ملكة بريطانيا.

«كنا بنلف العالم بالسجاد بتاعنا وبيتعرض ويتباع في دول أوروبا» بنبرة صوت فخور بإرثه الذي تركه له أجداده، يستكمل القطان حديثه، عن زمن الجيل التاني من المصنع، حين طُلب منهم عمل سجادة يدوي فرعونية خصيصًا لقصر اللورد مارش البريطاني، استغرق إعدادها أكثر من عام كامل، وخرج موكب كبير يزفها إلى القارة العجوز، لتستقر في غرفة الطعام بالقصر البريطاني، في حدث تناولته المجلات والصحف البريطانية، حينها.

وقت الجيل الثاني للمصنع طُلب منهم عمل سجادة فرعونية لقصر اللورد مارش البريطاني 

عجوز شاب رأسه، ورجال في عمر الخمسين وشباب ومراهقون، أعمار متفاوتة تجتمع أمام الأنوال داخل المصنع، تنصهر المسافات العمرية بينهم خلال العمل، العجوز يصب خبرته على الرجال فينقلونها بحكمة وصبر إلى الشباب، حلقات متصلة في سلسلة طويلة في كل حلقة منها عزيمة في البقاء ورغبة في الحفاظ على مهنة كادت أن تندثر.

«بحلم إن المهنة دي تكمل وكل جيل يعلمها للي بعده»، هكذا يحلم القطان الذي تشاركه في حب المكان داليا القطان، ابنة شقيقته التي انضمت معه لإدارة المصنع منذ عام 2006 كجيل رابع له، «طول عمري كنت باجي مع والدتي وجدي وجدتي وأنا صغيرة وليا ذكريات كتير في المكان ده ونفسي نستمر ونسلمه لأولادنا وأحفادنا»، بحسب قولها.

 

المصنع عاصر أزمات عالمية بداية من الحرب العالمية الثانية وآخرها كورونا

قبل ثلاثين عاما جاء محسن رمضان، عامل سجاد يدوي، إلى مصنع القطان، كان حينها صغيرا يتحسس أوتار النول بحذر، ولم يمض وقت طويل حتى أبدع وبات محل ثقة لرؤسائه، «شاركت في عمل سجادة اللورد مارش وعملت سجادة مخصوص لنادي فولهام الإنحليزي وسجادة أبيسون فرنساوي اتصدرت برا»، بحسب روايته.

أزمات كبرى أطاحت بزعماء كبار وأعادت تشكيل الخريطة السياسية العالمية، بداية من الحرب العالمية الثانية التي انتهت 1945 والثورة ضد الملكية وصولا إلى ثورة يوليو52، عاصرها المصنع الأثري، لم ينهزم عماله أمامها حتى رست مراكبهم أمام وباء كورونا الذي وضع بصماته على صعوبة بيع إنتاجهم المتراكم في ساحة العرض الرئيسية بالمصنع،«مر علينا أزمات كتير أصعب من كورونا وحب المكان في دمنا مش هنسيبه رغم إن المهنة بتندثر»، يقول القطان الحفيد في وصف تاريخ الأزمات التي عصفت بالمصنع منذ تأسيسه.

جدران المكان التي باتت متهالكة لا تزال في انتظار اهتمام أحد المسؤولين باليونسكو لترميمها وإدراجها على قائمة المباني التراثية لتجاوز عمرها الـ200 عاما، يناشد القطان الحفيد الهيئة المعنية بالتراث بقوله، «أتمنى حد في اليونسكو يرمم المكان ويتحول متحف للسجاد اليدوي ويتعمل فيه معارض للسجاد» ليظل باقيا على مر العصور والأزمنة.


مواضيع متعلقة