إفساد الصوم بالحجامة والقىء

القاعدة فى مفسدات الصوم هى عكس القاعدة فى مفسدات الوضوء؛ بمعنى أنه لكى تعرف ما الذى يبطل أو يفسد صومك فلتجرِ فى رأسك مقابلة مع الذى يبطل أو يفسد وضوءك. وهذه القاعدة تقول: «الفطر مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل». بمعنى أن الذى يفطرك -لو كنت صائماً- هو الشىء الذى يدخل جسدك كالأكل والشرب. والذى ينقض وضوءك -إذا كنت متوضئاً- هو الحدث الذى يخرج من جسدك، كقضاء الحاجة أو خروج ريح. هذه القاعدة قال بها عبدالله بن عباس، كما أخرجها البخارى تعليقاً ورواها البيهقى. غير أن البيهقى بعد روايته لهذه القاعدة قال: ومثلها ورد عن الإمام على، وتوجد رواية ولكنها لم تثبت نسبة هذه القاعدة لسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم. كما أخرج هذه القاعدة الطبرانى عن ابن مسعود؛ حيث قال: «إنما الصيام مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل». بمعنى إذا أردت أن تصوم فلا بد أن تمتنع عن إدخال الطعام والشراب ونحوهما إلى جسدك. وإذا أردت الحفاظ على وضوئك فلا بد أن تمتنع عن إخراج أى حدث من جسدك. بيد أن الذى تعلمناه فى علم «أصول الفقه» أنه لا توجد قاعدة فقهية مطردة، لا بد أن يدخلها الاستثناء، حتى إن الإمام الحموى الحنفى والإمام السبكى الشافعى قالا: «إن القاعدة الفقهية حكم أغلبى ينطبق على جزئيات كثيرة». بمعنى أنه لا توجد قاعدة فقهية يمكن اعتبارها قرآناً مقدساً. القاعدة تساعدك فقط على ترتيب أفكارك. ونحن فى هذه الأنبوشة الفقهية سوف نقوم بتطبيق قاعدة «الفطر مما دخل وليس مما خرج» على مسألتين. ورد فى السنة الصحيحة ما يدل على فساد الصوم بعكس هذه القاعدة التى ذكرناها؛ فهما شيئان يخرجان من الجسم ولا يدخلان فيه، وكان المنطق بحسب القاعدة الفقهية أنهما لا يفطران الصائم، وهما الحجامة والقىء. أما القىء فهو إخراج الطعام أو بعضه من المعدة عن طريق الفم، وأما الحجامة فهى عبارة عن إخراج بعض الدم من الجسم عن طريق الشفط أو المص، وبعض الفقهاء يقول: إن ذلك يكون من نهاية الرقبة. وبعضهم يقول: إنه يكون بشفط الدم من أى جزء من الجسد. وسوف نستعرض آراء الفقهاء فى حكم الصوم مع الحجامة والقىء لكى نتسلح بالعلم ونتحصّن بالفقه، ونرى بعين الإسلام سعة الدنيا التى تحملك وتحمل غيرك؛ فالذى يفضل التيسير سوف يجده، ومن يفضل الاحتياط والشدة المنضبطة سوف يجدهما. أولاً: الحجامة للصائم. الحجامة التى هى إخراج بعض الدم من الجسد عن طريق الشفط، التى كانت من أدوات العلاج المتقدمة أيام النبى، صلى الله عليه وسلم، حتى كان الذى يقوم بها آنذاك يمكن وصفه بالجراح العالمى كالدكتور مجدى يعقوب، جراح القلب فى عصرنا الحاضر. وقد يعترض البعض ويقول إنه مسيحى الديانة ولا يجوز أن نضرب به المثل ونحن نتحدث عن الحجامة التى قام بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لكن الجواب عن هذا الاعتراض أنه لا يصح أن نتحدث بلغة العصبية؛ لأن الطب عمل إنسانى لا يجوز أن ندخل فيه العصبية الدينية بصفة الإسلام وغيرها؛ خاصة إذا علمنا أن أشهر جراحى الحجامة أيام الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذى أجرى له عملية الحجامة وكان أجراها أيضاً لأم المؤمنين أم سلمة لم يكن مسلماً وقت إجراء الحجامة، وكنيته «أبوطيبة». واسمه مختلَف فيه والأشهر أن اسمه «ميسرة» وقيل «نافع». وكانت حجامة النبى، صلى الله عليه وسلم، فى 17 رمضان. وإذا راودك الشك فى هذه المعلومة فيمكنك الرجوع إلى كتب السنة فى صحيح مسلم وغيره عن جابر، وفى صحيح ابن حبان عن أنس. بل أخرجه الحاكم فى «المستدرك» عن عائشة زوج النبى، صلى الله عليه وسلم، أنها استأذنت النبى، صلى الله عليه وسلم، فى الحجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها. وبهذا يكون النبى، صلى الله عليه وسلم، وزوجتاه أم سلمة وعائشة -رضى الله عنهما- قد احتجموا على يد الجراح «أبوطيبة»، الذى لم يكن مسلماً يوم قيامه بالحجامة للنبى، صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يدفع الخراج، والنبى، صلى الله عليه وسلم، خفّض له الثلث مقابل الحجامة؛ فقد سأله عن ضريبته فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعاً، ثم أسلم بعد ذلك؛ لأن ترجمته فى الصحابة لكن ليس معلوماً سنة إسلامه ولا سنة وفاته. وقد روى «أبوطيبة»، الحجام، حديثاً بعد إسلامه يعطينا دروساً فى نبذ العصبية وجمع الأسرة الإنسانية للتعايش فى الدنيا بحب مع اختلاف أديانهم، وذلك بحسب سياسة تفويض «الدين لله» امتثالاً لأمر الله، عز وجل. هذا الحديث أورده ابن الأثير فى «أسد الغابة» عن أبى طيبة، وقال أخرجه أبونعيم وأبوموسى. والحديث وإن كان قد رُوى بألفاظ متقاربة عن ابن عمر عند أبى نعيم، وعن أنس عند الديلمى، إلا أننى سوف أذكر رواية أبى طيبة الحجام باعتباره لم يكن مسلماً وقت قيامه بالحجامة للنبى، صلى الله عليه وسلم، فى رمضان. قال صلى الله عليه وسلم: «ستة يعذبون يوم القيامة: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية (يعنى أن العصبية داء عند العرب لا بد من التخلص منه، ولعل هذا من أسباب نزول الإسلام فى العرب لكى يكون عليهم حجة، غير أن كلامى هذا يحتمل الخطأ لأن حكمة نزول الوحى فوق كل العقول)، والعلماء بالحسد، والدهاقين بالكبر (والدهقان بفتح الدال وكسرها وضمها: رئيس القرية أو صاحب الزراعة والأطيان، وهى كلمة فارسية معربة)، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل (والرستاق: لفظ فارسى معرب يعنى القرية البعيدة عن المدن الحاضرة، وهى السواد، مثل خيبر بالنسبة للمدينة المنورة؛ لبعدها عن العلم والتعلم)». أما حكم الحجامة فى الصوم ففيه مذهبان: المذهب الأول: يرى أن الحجامة لا تفطر الصائم؛ فالصوم صحيح مع الحجامة. ويتخرج عليه التبرع بالدم فى العصر الحاضر. وهذا مذهب الجمهور من الظاهرية. وحجتهم ما أخرجه البخارى عن ابن عباس أن النبى، صلى الله عليه وسلم، احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. وقالوا: إن الحجامة كانت تفطر الصائم ثم نسخ هذا الحكم، بدليل ما أخرجه الدارقطنى وقواه، عن أنس، قال: أول ما كُرِهت الحجامة للصائم، أن جعفر بن أبى طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبى، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أفطر هذان» -يقصد الحاجم والمحجوم- قال أنس: ثم رخص النبى -صلى الله عليه وسلم- بعد فى الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. وكذلك قالوا: إن الحجامة ليس فيها دخول شىء إلى الجسد بل العكس هى إخراج فكان حكمها حكم قضاء الحاجة. والصوم مما دخل لا مما خرج. المذهب الثانى يرى أن الحجامة تفطر شخصين، الحاجم والمحجوم. وهذا مذهب الحنابلة وقال به بعض السلف، منهم الحسن البصرى وابن سيرين. وحجتهم ما أخرجه البخارى تعليقاً، وأخرجه أحمد وأكثر أصحاب السنن بسند صحيح عن شداد بن أوس أن النبى -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم فى رمضان فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». واختلاف الروايات فى الفطر بالحجامة وعدمه قد يذهل البعض، وقد يذهله أكثر ما يجد من فساد صوم الحاجم (الطبيب). غير أن المكلف العاقل من حقه أن يقول: إن هذه عبادة وطاعة تؤخذ بالإيمان وليس بالعقل. وكذلك من حقه أن يقول ما دام عندى دليل صحيح يؤكد أن النبى، صلى الله عليه وسلم، احتجم وهو صائم، إذن فحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» خاص بأصحابه لا يعمم، أو نسخ بفعل النبى، صلى الله عليه وسلم. ثانياً: القىء من الصائم: القىء هو خروج الطعام من المعدة، وله صورتان. الصورة الأولى: أن القىء يكون بغلبة المرض، وليس بإرادة الصائم. هنا عند أكثر أهل العلم الصوم صحيح؛ لأن الفعل غير إرادى وخالف فى ذلك ربيعة الرأى، شيخ الإمام مالك، قال: يفطر. لكن المشكلة لو أن الصائم بلع الخارج من فمه وكان فى إمكانه أن يمجه؛ فالجمهور يرى فساد الصوم؛ لوجود الإدخال بعد الخروج. وذهب أبويوسف إلى أنه إن كان أقل من ملء الفم لم يفسد صومه؛ لأن الفم ملحق بالداخل. والدليل على صحة الصوم بالقىء المرضى ما أخرجه الترمذى بسند حسن عن أبى هريرة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «من ذرعه القىء فليس عليه قضاء. ومن استقاء عمداً فليقض». الصورة الثانية: القىء عمداً، كما يتزيده بعض الشباب أو يفعله البعض على وجه العبث؛ فالجمهور على أنه يفسد الصوم. وذهب أبويوسف من الحنفية ورواية عند الحنابلة إلى أن الاستقاءة إذا كانت أقل من ملء الفم فلا تُفطر الصائم؛ لعدم الخروج حكماً. أما إذا كانت الاستقاءة ملء الفم فأكثر فإنها تفطر؛ لحديث الترمذى عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من ذرعه القىء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض». وذهب طاوس من التابعين إلى أن من استقاء ولو كثيراً فصيامه صحيح؛ لأن الفطر مما دخل لا مما خرج. أعتقد أن المكلف العاقل بعد أن عرف أقوال الفقهاء وأدلتهم فى حكم الصوم مع الحجامة أو مع القىء فإنه سيكون على قناعة أن الدنيا فى الإسلام واسعة وأن الدين يسر. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى.