المصالحة الخليجية.. فاعلون في الظلال
الذهاب للمصالحة الخليجية بدأ منذ ساعة الخصام، مهما بدا الأمر غير ذلك.
قيل فى الخلفيات إن قطر تعهدت بوقف أى تمويل لأى جماعة إرهابية (إخوان- داعش- جبهة النصرة)، وبعدم دفع أى فدية لأى تنظيم مسلح لتحرير أى شخص كائناً من كان كى لا تتحول الفدى لبوابة خلفية للتمويل.. بالإضافة إلى إخضاع حركات التحويلات المالية القطرية لرقابة أمريكية صارمة من الطراز الذى يتعقب التحويلات التى يُشتبه فى تبعيتها أو إفادتها للإرهابيين.
بيد أن فى الظلال كواليس أكبر من مجرد الالتزام القطرى أو التنصل والمراوغة، فقد استعانت قطر بتركيا لتوصيل البضائع إليها لسد العجز الهائل جرّاء إغلاق السعودية للحدود، فتحركت الأساطيل التركية براً إلى إيران ومنها عبر الخليج إلى قطر. وفجأة وكأنك حضّرت الجنى بكامل رغبتك.. موطأ قدم جديد لتركيا وإيران عبر أزمة مع قطر.. فاصرف الجنى بنفسك!
وقطر مع صغر مساحتها هى جزء من التكوين الخليجى بتعقيداته الإنسانية التاريخية، حيث القبائل التى وجدت نفسها بين عشية وضحاها موزعة على أكثر من دولة.. فتوزعت الولاءات وتشتت الانتباه. ناهيك عن المروية التى يرويها كل طرف ويرى فيها مشروعية ضم جزء بعينه لأراضيه، أو احتواء قبيلة ما تحت مظلة هيمنته المعنوية، أو امتصاص بلد بكامله تحت نفوذه وتدخله المباشر.
أسئلة هوية متجذرة بامتداد بلدان تشكلت حدود معظمها قبل عقود لا تصل لقرن من الزمان.
هذا التعقيد بكل ما أفرزه من مسائل الولاء وأسئلة الهوية ومصاريف التحييد أو أعطيات الانحياز.. هو ذاته الدافع الإنسانى الضخم الذى تحرك تحت السطح لينخر فى أساس «الحصار» ويستعجل «الصلح».. فالقبيلة الموزعة بين دولتين همست فى الآذان هنا وهناك، والأسرة التى يتوزع أفرادها بين قُطرين صعّدت مأساتها ووجدت طريقها لتشكو آلام الحصار، فالمصاهرات داخل البيت الخليجى متسعة وقديمة ومتشعبة، فكأن الحصار وقع فى كل بيت على الضفتين. ومن لم يطله الحصار فى أسرته، طاله فى استثماراته. ونحن هنا نتحدث عن قطر ومحاصريها.. الجميع فى البلوى سواء.
ثم استتبع الانحياز تراشقاً إعلامياً متبادلاً وصل لذروته، ومع الذروة خرجت على شاشة التلفاز ثرثرات كان محلها الغرف المغلقة، فكأنما العورات أو (ما صُور أنه عورات) أضحت منشورة على الملأ. ونُسب بحق البيوت الحاكمة هنا وهناك ما لا يليق، وكُشف من كواليس الشقاق العربى وجذوره وفصوله السرية ما كان محرماً على التداول العلنى، فانتهى الحال بالجميع جريحاً جرّاء ما نُسب ضده بحق وبغير حق.
بعيداً عن شقاقات السياسة وحساباتها، بدا الجميع مرهقاً على المستوى الإنسانى.
تضررت قطر واضطرت لسلسة إجراءات طويلة لسد احتياجاتها ولاحتواء الصدمة، لكنها ضمّدت جراحها بابتكار رواية وطنية عنوانها «تميم المجد»، ليتحول بموجبها أميرها الشاب -الذى بدا لسنوات حائراً بعض الشىء- إلى رمز الصمود.
دشن الرجل شرعية -لا يحتاجها بطبيعة الحال- ودشن القطريون معها شعوراً بأن لهم «وطناً» و«خصوماً» و«أزمة». وهذه هى القيمة الأكبر لدولة قطر التى طالما عايرها خصومها وبعض جيرانها بأنها بلا تاريخ وبلا سردية وطنية وبأنها قائمة على التجنيس والاجتذاب المالى للمتميزين فى كل مجال.
تألمت قطر، وبذلت مليارات لا حصر لها، بيد أنها وجدت نفسها حيث لم تكن تتوقع.. وهذه منحة الأزمة لها.
أما خصومها رغم كل شىء فقد آلموها وحوّلوها إلى رهينة كبرى وكبّدوها خسائر فادحة على مستويات كثيرة، أهمها سلب الدوحة «الشعور بالأمان» الذى ربما سيحكم أجيالاً من القطريين لعقود تالية.
ووسط هؤلاء، وفى دوائر قطرية رسمية وشعبية، بدا النظر إلى مصر بوصفها الطرف الأكثر منطقية فى خصومته، فهى فى نهاية المطاف خصومة مبرَّرة ومسبَّبة وواضحة المعالم، فيما لم يكن الحال هو هو مع دول الخليج التى تحكم علاقاتها معاً قوانين أخرى، لها طابع قبلى وعرفى بأكثر مما لها طابع سياسى بحت.
كواليس محطات السياسة الإقليمية الكبرى تم حسمها فى مزارع أمراء الخليج وفى قصورهم وفى خلوات المسامرة.. لا فى مكاتب الحكومات ودواوين المُلك.
الصلح فى نهاية المطاف مكسب إنسانى ضخم للجميع، ولملمة للصف العربى الذى كفاه بعثرة.
مصر هى الطرف الذى يدرك ما الذى يريده يقيناً وسط غبار كل هذه الدوافع والخلفيات المتضاربة. والتحدى الأكبر وسط إنهاء الأزمة هو انتهاب المكسب الأكبر. ومصر تستطيع.. وليتها تريد.