«لا» بلا خوف.. «نعم» بلا تردد

محمد هانى

محمد هانى

كاتب صحفي

فى دار سينما كريم قبل ثلاثين عاماً رأيته لأول مرة.. بالتحديد أبريل ١٩٩٠، فى العرض الخاص لفيلم «الراقصة والسياسى»، إحدى أيقوناته التى تزهو بها السينما المصرية.. كنت وقتها صحفياً متدرّباً فى «روزاليوسف».. تقدّمت إليه وصافحته وسط عشرات غيرى وربما قدّمت له نفسى ولم ينتبه.. ولكن أكثر ما استوقفنى ليلتها هو سطوة حضوره والتفاف الجميع حوله رغم وجود نجوم كبار، بل إن النجوم أنفسهم كانوا يتحركون فى فلكه.

كان ذلك المشهد يحمل معنى وقيمة خاصة فى نظرى، فهو يؤكد لى أنه «فى البدء تكون الكلمة» فعلاً، فالسيناريو الذى يكتبه وحيد هو الذى يخلق شخوصاً ومشاعر وأحداثاً.. هو الذى يدفع للضحك والبكاء.. للخوف والتهور.. للتأمل والتفكير والحب والرفض والصراخ والسخرية.. هو الذى يصنع هذا السحر الذى نراه على الشاشات، نجوماً يُبدعون ويتأثر ملايين الناس بما يقدّمونه.. وهو الذى يصنع ما أراه الآن من تحلّق النجوم حول الكاتب عندما يكون من طراز وحيد حامد.. ليلتها أيقنت حقيقة أنه لكى تكون نجماً ليس شرطاً أن تكون صورتك على إعلانات الشوارع، ولكى تصنع أسطورتك ليس بالضرورة أن تظهر على الشاشة.. وأن البريق إذا لم ينعكس من ذهب أصلى يكون بريقاً خادعاً ومؤذياً أيضاًً.. وأن تلك هى آفة بلدنا إذا مرض، وحربه إذا تعافى.

 

بعد تلك الليلة بعامين كنت قد أصبحت زائراً منتظماً لمائدة وحيد حامد الشهيرة بفندق «الميريديان»، فتجربة «روزاليوسف» الأشهر والأجرأ بقيادة عادل حمودة كانت قد بدأت، وكنت واحداً من شباب «روزا» الذين صنعوا تلك التجربة، وقد أصبح «وحيد» أحد أهم الكتاب الكبار الذين استقطبتهم «روزا» وجذبتهم تجربتها الجديدة الجريئة.. وبدأت مقالاته النارية تتوالى فى السينما والثقافة والفكر والقضايا الاجتماعية الجدلية والسياسية الشائكة، ووقف فى مقدمة صفوف «روزاليوسف»، فى مواجهة الإرهاب وتجار الدين وجماعات الإسلام السياسى والتطرّف ونفاق السلفيين وخداع الإخوان وخستهم.. خاض معارك، وفجّر سجالات  على صفحات «روزا» بقلم أشجع من أن يهادن وأوضح من أن يزايد أحد عليه.. وفى تقديرى فإن عنوان أحد مقالات «وحيد» يُلخص رسائله ومعاركه فى تلك الفترة.. «استيقظوا أو موتوا».. لقد كان يصرخ فى وجه المجتمع والنخبة والسلطة فى الوقت نفسه بهذا المعنى، ويكرره مهما تغيّرت الألفاظ وتباينت القضايا.

فهل استيقظنا؟.. لا أظن..

هل مُتنا؟.. لا أظن أيضاً!!

ما زلنا بين اليقظة والموت، وما زال تحذير «وحيد» ينتظر استجابة.. «استيقظوا أو موتوا».

 

فى تلك السنوات حاورت وحيد حامد كثيراً وحصلت منه على انفرادات مهمة حول أعماله السينمائية والتليفزيونية قبل أن تظهر، ولم تكن مجرد أعمال فنية، بل مواجهات سياسية واجتماعية تكشف وتحلل وتستشرف الغد وما بعد الغد: «أوان الورد»، «العائلة»، «طيور الظلام»، «الجماعة»، «معالى الوزير»، «كشف المستور»، «النوم فى العسل»، وغيرها.. وكتبت ناقداً أعماله.. وفى جميع الأحوال ظل الحوار معه متواصلاً والثقة قائمة.

وعلى مائدته التى كانت قد انتقلت من مبنى «الميريديان» القديم إلى المبنى الجديد «جراند حياة» انضممت إلى «مجلس الشر» الشهير الذى ينعقد كل يوم جمعة، حيث تدخل فى مناقشات ذكية وساخرة وتشهد سجالات وتعرف أخباراً وأسراراً  وتستمع إلى آراء مهمة.. وبالتأكيد فأنت محظوظ إذا أُتيحت لك فى بدايات طريقك الصحفى أن تجمعك مائدة واحدة أسبوعياً مع أسماء بحجم عادل إمام وأحمد زكى وعبدالرحمن الأبنودى وفاروق حسنى ونجوم وصحفيين كبار ومسئولين من كل مجال يرتادون «مجلس الشر»، الذى ليس هو بالتأكيد تجمّعاً للأشرار، ولكن ربما لأنك إن لم تكن فيه صقراً ستكون فريسة، فلا بد أن تظل يقظاً فى المناقشة، حاضر الذهن والبديهة.. وهو لا يقبل عضوية الخاملين  والبلداء والمنافقين.. ولا ثقيلى الظل.

 

لقد سألت نفسى كثيراً: ما سر وحيد حامد؟ ولم أصل إلى إجابة محددة.. ربما السر فى أنه لا يتعالى بإبداعه ولا ينعزل، فلم يفقد أبداً البوصلة الشعبية ولا الحس الإنسانى.. إنه متواصل مشتبك طول الوقت مع أكبر مسئول أو مع أبسط إنسان.. مع مشاهير ونجوم بالطريقة نفسها، التى يستخدمها مع شاب موهوب يبحث عن فرصة أو نصيحة.

ربما يكون هذا جزءاً من سره.. الحس الصحفى والاشتباك اليومى مع الحياة.

ودائماً هو قادر على أن يقول «لا» دون خوف، و«نعم» دون تردّد، ودون أن يلتفت إلى مزايدة أو تشكيك.. وأظن أنه لذلك ظل حريصاً على أن يكتب للصحافة، متنقلاً بقلمه من صحيفة إلى أخرى، باحثاً عن مساحة حرية، ممتنعاً حين تضيق، ويظل مقاله البديع «القرود الخمسة» على صفحات «المصرى اليوم» فى ظل حكم الإخوان أحد أهم المقالات فى تاريخ الصحافة المصرية فى تقديرى.

 

كنت دائماً إذا وجدت وحيد حامد يكتب ويتحدّث للصحافة والتليفزيون.. يدعم ويرفض ويشاغب، أطمئن أن البلد بخير.