قضية فلسطين إلى أين؟!
يقول البعض إن مدينة القدس انتظرت 88 عاماً تحت الاحتلال حتى حررها صلاح الدين، ويقول البعض إننا لن نستطيع القضاء على إسرائيل وإنهاء وجودها بالمنطقة، وهو منطق صحيح ومؤكد، وبالمنطق أيضاً لن تستطيع إسرائيل القضاء على العرب، أو لن تستطيع محو الفلسطينيين من الوجود كما فعل المهاجرون إلى أمريكا مع الهنود الحمر أصحاب الأرض الأصليين، وهو أيضاً منطق صحيح ومؤكد، لكن كل ذلك لا يعنى غضّ البصر عن تأثيرات ما يحصل.
التطورات السريعة والمتلاحقة فى الأيام الأخيرة تؤشر إلى متغيرات عميقة فى مسيرة القضية الفلسطينية، وعدم الانتباه لضرورات التعاطى معها سيتسبب فى خسائر فادحة، ولم يعد الأمر متوقفاً على شعارات أو حسابات أيديولوجية، بعد أن تواترت أحاديث عن خروج شلال الاعترافات بإسرائيل من الدائرة العربية إلى الدائرتين الإسلامية والأفريقية.
مسألة الصراع فى المنطقة اتخذت مسميات عدة ومتنوعة على مدار حقب وعهود، ما بين الحرب العربية فى نهاية أربعينات القرن الماضى، إلى الصراع العربى - الإسرائيلى فى الخمسينات، ثم صراع وجود لا صراع حدود فى الستينات، حتى حسمت المواجهة المسلحة وانتصارات حرب أكتوبر المجيدة تاريخاً طويلاً من الصراع، والذى انطلق بعدها إلى رحاب مختلفة تماماً عما سبق، وتقلصت المفاهيم والمعانى، وانتهت بنا الآن إلى الحديث عن الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى فقط.
الشاهد أن كل المعانى السابقة كانت فى إطار التصنيفات العربية للمواجهة مع دولة الاغتصاب الناشئة آنذاك، وتغيرت شعارات المواجهة وتطورت من الجانب العربى مرات عدة، لكنها ظلت بالنسبة للجانب الغاصب الاستيطانى شعاراً واحداً ومعنى واحداً وهدفاً واحداً هو إقامة الدولة المرجوة على مراحل متعددة، حاول اختراق جدار الإطارات العربية بتحركات مباشرة، لكنه لم يحقق أى نجاح فى هذا السياق وقتها.
اللافت أننا أحطنا شعاراتنا بإطارات صلبة فرضت قيوداً حديدية كانت بمثابة حواجز عقلية تمنع التفكير والبحث عن إطارات أخرى فى مسارات مختلفة، ولن تغيب من ذاكرة التاريخ ردة الفعل على قرار ناصر بقبول مبادرة روجرز، وما أدراك ما ناصر بالنسبة للقضية الفلسطينية، لكن القيد الصلب الذى أحاط بالعقول رجم القائد ولم يرحمه، لمجرد قرار تكتيكى ارتبط بظروف محددة اضطرارية.
والحاصل أن انتصارات حرب أكتوبر تمكنت من فرض واقع مختلف، بل كرست مساراً مناقضاً لما كانت عليه المسألة قبل أكتوبر 73، ومع تحرك الرئيس الراحل أنور السادات فى مسار المفاوضات الشاملة مع إسرائيل «المهزومة»، تحركت القضية ميدانياً إلى مسار السلام، واستبعاد أحاديث الحرب والحسم العسكرى، من وقتها وحتى الآن.
والظاهر من المتابعات التاريخية للأحداث، أن صمود المنظومة العربية فى مواجهة تحرك السادات، والانقلاب الذى حصل فى مفهوم القضية والتعامل معها، لم يستغرق طويلاً، وفى نحو عشر سنوات، خرجت مصر من حصار المقاطعة العربية، وعادت إلى القافلة بمفاهيمها وأفكارها ومواقفها ورؤيتها، فيما اعتُبر وقتها إقراراً غير رسمى بالمسار الجديد، كان ينتظر وقته للتفاعل والتعاطى معه، والاندراج على أرضيته.
ما حدث مسلَّمات لا يمكن إنكارها، صحيح يُمكن وبالقطع الاختلاف معها، بل والتمسك بإطارات تاريخية للقضية، والتعامل معها كأساس لمستقبل افتراضى مُنتظر تحققه فى الواقع، وإن كانت هذه الاحتمالات بالغة الصعوبة، كون معطياتها وشواهدها غائبة عن المشهد الحالى، وهو ما يُضعف من ممكنات العودة للسابق، على الأقل فى المدى المنظور.
حتى المبادرة العربية للسلام التى أطلقتها قمة القادة والحكام العرب فى 2002، ما عادت ذات وجود، كونها ترهن الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل بتأسيس الدولة الفلسطينية على حدود 67 وعودة الجولان واللاجئين، وهو مبدأ بالقطع لم يتحقق فى الاتفاقات المتتالية بين دول عربية وبين إسرائيل مؤخراً، وهى الوسيلة الجديدة التى تضاف لإطارات التعامل مع الملف، ويُمكن توصيفها بالاتفاقات الثنائية المباشرة، والملاحظ أنه أول إطار تعلنه إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة للتعاطى مع العرب، وهو إطار يخرج منه تماماً أى حديث عن القضية الفلسطينية، وهذا طبيعى كونه يفرض مفهوم الثنائية، كون أى علاقة إسرائيلية بأى دولة عربية باتت مسألة ثنائية بينهما وليست فى إطار قضية أوسع وأشمل كما كان قائماً.
من هنا نحن أمام تصور جديد لمستقبل المنطقة، فرضته المتغيرات والتطورات المتلاحقة فى المنطقة، وخصوصاً مع تصدع نظام الأمن القومى العربى، بعد إصابة مصر فى مقتل بأحداث يناير 2011، وهو التطور الذى كاد يُنتج تداعيات أكثر خطورة على المنطقة كلها من الحاصل فعلياً، لولا استعادة الدولة المصرية مكانتها فى 30 يونيو ونجاحها فى ترميم ثغرات عدة بجدار الأمن العربى.
المشكلة أن الطرف الأصيل فى المواجهة، والقصد هنا هو الجانب الفلسطينى، لا يوفر أى معطيات أو شواهد أو دلالات على رغبة فى الانخراط بهذه التطورات والتفاعل معها فى سياق إيجابى، بل الأكثر من ذلك أنه ما زال متوقفاً عند إطارات لم تعد قادرة على مواكبة التطورات الجديدة، وهو غارق -وهذا الأخطر- فى صراعاته الداخلية ومنشغل كل طرف فى المشهد الفلسطينى بمصالحه الحزبية ومغانمه «البزنساوية»، ورغبته فى الاستحواذ على أغلبية المغانم السياسية فى تنافسه مع الأجنحة الأخرى، لدرجة أننا لا نسمع عن أى رؤية أو تصور مقابل، حتى إنك تتخيل رغبة متعمدة فى النأى بالشعب الفلسطينى عن التطورات والأحداث الجارية، وكأنها غير مؤثرة على حقوق الشعب الفلسطينى.
المؤكد أن المتغيرات الإقليمية المحيطة، وصعود قوى بالمنطقة طامعة فى الثروات العربية واستعادة الأمجاد التاريخية، وفرض نفسها كقوى قائدة للإقليم، فرضت فى المقابل على دول المنطقة رسم مسارات جديدة لخريطة المنطقة، بما يوفر لها الأمن المطلوب، ويتيح لها قواعد مختلفة للمواجهة، وهى المواجهة التى تداخلت خيوطها، حتى إن بعض مفرداتها باتت عربية أجنبية فى مواجهة مع أطراف عربية، والأكثر إيلاماً أن أطرافاً فلسطينية باتت من بين عناصر تلك التعقيدات، وهكذا فرض هذا التعقد الغريب فى المشهد الإقليمى تطورات نوعية مختلفة للمستقبل عما كانت عليه فى الماضى ولو كان قريباً.
نحن أمام تصور يقول إن هذه التطورات العربية الإسرائيلية لا يجب أن تؤدى إلى تهميش للقضية الفلسطينية، وهو تصور يطرحه قادة وسياسيون من خارج المنطقة وداخلها، وإن كان تصور إمكانات تحقق ذلك من الصعوبة بمكان إلا فى إطار دولى يفرض حلاً نهائياً متوافقاً عليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
المؤكد أن كل التطورات الأخيرة ألقت بالكرة فى الملعب الفلسطينى، وأصبح قادته مسئولين عن طرح رؤى وأفكار ومبادرات لحلحلة الموقف، ومن دون انتظار لمبادرات من خارج أو داخل الإقليم لاستثمار المناخ السائد الآن، فلم يعد هناك بديل أمام رموز النضال الفلسطينى، سوى التخلى عن مناخ الصراعات الداخلية والتنافس على المغانم السياسية الحزبية، باعتبار ذلك السبيل الوحيد لتوحد الفصائل فى التعامل مع الواقع الجديد.
رفض التطبيع وعدم الاعتراف بإسرائيل حسابات شعبية بالدرجة الأولى، وهى تختلف تماماً عن المطلوب من الرسميين لحماية أوطانهم وصون حقوق شعوبهم.