«صلاح عيسى» .. والوطن الذى أنجبه
لم أعد أذكر متى تعرفت - كقارئ - على كتابات الأستاذ صلاح عيسى (1939 - 2017) الذى تحل ذكرى رحيله الثالثة هذه الأيام، ولكنى لن أنسى ما حييت تلك الحالة التى كانت تنتابنى فى بداية ثمانينات القرن الماضى، كلما طالعت له مقالاً فى الصفحة الأخيرة من جريدة «الأهالى» القاهرية، أو عثرت على موضوع له فى مجلة «الدوحة» القطرية. آنذاك، كنا طلبة جامعات ريفيين نعمل ونتشرد ونصيع فى غيطان القرية أكثر مما نجلس فى مدرجات الجامعة، ونهرب من عقم وغلظة المقررات الدراسية إلى قراءة الروايات والدواوين وبعض كتب التنويريين الكبار أمثال العقاد وطه حسين وزكى نجيب محمود.. وآنذاك أيضاً لم تكن القراءة تمثل لنا أكثر من «حلية» تميزنا عن الجهلاء الذين لا يقرأون، وفى أفضل الأحوال كانت القراءة مجرد وسيلة لمعرفة كيف يكتب الآخرون شعراً وقصصاً لأننا كنا قد تجرأنا وبدأنا نخط قصائدنا وقصصنا الأولى.
وبين فترة وأخرى كنت أقع على مقال أو دراسة قصيرة لصلاح عيسى، وما إن أنتهى من قراءة المقال أو الدراسة حتى أشعر بجوع رهيب إلى مزيد من هذه النوعية من الكتابة، ومزيد من هذا الفيض الآثر الذى ينهل من الشعر والرواية والتاريخ والسياسة، مثلما ينهل من عرق الفلاحين فى الغيطان والعمال فى المصانع والمناضلين فى السجون والمرضى المرميين فى طرقات وعنابر المستشفيات والمجاذيب فى مقامات الأولياء، ولكن هذا الجوع ظل يتوارى خلف شواغل وتفاهات كثيرة حتى استيقظت ذات صباح يوم أربعاء من شهر نوفمبر عام 1983 على جريدة الأهالى، وفيها مقال لصلاح عيسى تحت عنوان لا أنساه أبداً: «تعظيم سلام للوطن الذى أنجبك»، وإذا بى أمام حالة لم تفارقنى حتى هذه اللحظة.. إنه مقال عن طه حسين، ولكنه قبل ذلك وبعده مرثية بديعة وحزينة عن الوطن الذى أنجب طه حسين، وهو سيرة ذاتية عن هذا الطالب الأزهرى الكفيف، فيها الكثير عن كتبه ومعاركه، ولكنه أيضاً تغريبة شاعرية عن تاريخ مصر تحت الاحتلال البريطانى، تجسدت أوجع وأبرع تجسيد فى شخص طه حسين، وها هو صلاح عيسى يكتب: «بكل الحسابات لم يكن الوطن مؤهلاً إلا ليكون متسولاً يشحذ من غُزاته ويعيش فى كنفهم، لا يرفع فى وجوههم الحمراء المتوهجة بالصحة، بصره المكفوف بالحاجة والذل، وطنٌ مهزوم وضرير وعاجز ومنكمش على ذاته.. لكن تحت تلال الجماجم التى تركها عرابى فى التل الكبير، كانت هناك جمجمة لم يقتلها «الوَلَس»، هى رأس الوطن، روحه التى لا تشيخ.. وقلبه الذى لا يموت».. ثم يقول صلاح عيسى: «أهى صدفة أن طه حسين الضرير العاجز حصل على الدكتوراه من (السوربون) فى اليوم نفسه الذى رزق فيه عبدالناصر أفندى حسين، موظف بريد الإسكندرية بابنه جمال.. أهى صدفة أن طه حسين كان يغالب بصره المكفوف ليقرأ خرائط الجغرافيا ويتعلم اللاتينية، ويضيف إلى الدكتوراه التى بُعث ليتعلمها، أخرى لم يطلبها أحد منه، فى الوقت نفسه - مارس 1919 - الذى كان الوطن ينتفض فيه من أقصاه إلى أقصاه؟».
ثم يصف صلاح عيسى المصريين أثناء ثورة 1919 وهو يكتب عن طه حسين: كانوا مكفوفين بالفقر والجوع والرمد الحبيبى والرمد الصديدى، لكنهم واجهوا جيش بريطانيا العظمى التى لا تغيب عنها الشمس، المدجج بالمدافع والبنادق.. بمجرد عجزهم، بلحمهم الحى وحده... لم تكن صدفة، ذلك أن طه حسين لم يكن مجرد فرد عبقرى، لكنه كان نزوع أمة لرفض العجز.. كان يقيناً لا يتزعزع بأن الحياة لا تستحق أن تُعاش إلا فى مَثَلها الأعلى.. وبلا كفٍ للبصيرة».
يا إلهى.. أى ثقافة تلك التى ألهمت صلاح عيسى هذه الطريقة الشاعرية فى الكتابة، وهذا المنهج الذى يجمع حبات الندى من على ورق النبات فى الغيطان وحبات العرق من على جباه الكادحين، ويلضمها فى خيط واحد مع طلقات بنادق ومدافع الغزاة، ولآلئ العقول المصرية التى تشكلت رغم أنف الفقر والذل والاستعباد والنهب والخيانة.. أين وُلد وعاش وتربى وماذا قرأ هذا المثقف المختلف المشاغب؟.. وكيف تأتّى له أن يقرأ فى تبتُّل مواويل الأنفار فى وسايا الإقطاع مثلما يقرأ فى وعى مدهش قصائد كبار الشعراء وحوليات المؤرخين ومواجد المتصوفين؟
ويومها لم يهدأ لى بال.. فقد أيقنت أن هذا المنهج فى القراءة والكتابة والحياة هو مطلبى، وتشردت خلف بائعى الكتب القديمة حتى عثرت على كتابين كاملين لصلاح عيسى هما: «حكايات من مصر» و«هوامش المقريزى».. وقرأتهما فى نفس واحد، لأكتشف مرة أخرى أنه لم يروِ عطشى ولم يسد جوعى، وبدلاً من ذلك تحولت كتاباته إلى دليل هائل الحجم لأنصع وأنبل وأقيم ما أنتجته المطابع من كتب، وأفظع وأخس ما اقترفه البشر من خيانات، وأوجع ما عانته الإنسانية من مظالم وعذابات. ومع الأيام عرفت أن هذا الكاتب المدهش مثلنا تماماً: وُلد لأسرة تعيش على حافة الستر فى إحدى قرى محافظة الدقهلية، وعانى مثل آبائنا من ذل الاحتلال الإنجليزى وحقارة وجشع الطبقة المحلية التى تحالفت مع الاستعمار فى مص دماء المصريين.. وأنه تعلم فى مدارس لا يختلف التعليم فيها غير أنه كان أفضل كثيراً من تعليم هذه الأيام، ولكن كل التلاميذ كانوا مثلنا فقراء، وأنه ذات صباح نزح إلى القاهرة ليكمل تعليمه فى معهد الخدمة الاجتماعية وتخرج فيه مثل العديد ممن نعرفهم ليعمل موظفاً فى وحدة اجتماعية.. ولكنه كان مهووساً بالقراءة: قراءة الكتب والناس والمبانى والشوارع والصحف وأعشاش الطيور على الشجر ولمعة عيون الصبايا ووضاعة النظرات فى عيون الجلادين واللصوص وتجار الدين.
ثم جاء اليوم الذى رأيته فيه: رجلاً ناضجاً أميل إلى النحافة، ينكفئ على مكتب متواضع فى البناية رقم 23 بشارع عبدالخالق ثروت.. وخلفه على الحائط ورقة بيضاء تحمل جملة واحدة لمكسيم جوركى: «جئت إلى هذا العالم لكى أعترض». كان ذلك فى مقر جريدة الأهالى القديم، وكنت قد انتهيت من قراءة كل ما أصدره من كتب، بل وقرأت بعضها عدة مرات، وعندما أعاد نشر بعض ما كتبه فى كتابه الملهم «حكايات من دفتر الوطن» أصبحت أشتريه كلما وجدته وأهدى نسخه لكل من أتوسم فيهم أنهم قادمون على درب التبتل فى عشق الوطن وكراهية لصوصه.. وكل من ألمح فى عيونهم شيئاً من الرعب على حاضر ومستقبل هذا البلد.. ففى هذا الكتاب - مثل كل كتب صلاح عيسى - ما يكفى لأن نؤمن بأن تحت جبال القهر والتعاسة واليأس، قلباً لا يكف عن النبض.. ولا عن البُشرى بالخلاص.. هو قلب الوطن.. فتعظيم سلام للوطن الذى أنجب أيضاً صلاح عيسى.