فنانون في زمن "كورونا": "لا عزف.. ولا رزق"

فنانون في زمن "كورونا": "لا عزف.. ولا رزق"
لم يتخيل الرجل السبعينى، عم عزت الفيومى، آخر أعضاء فرقة حسب الله، أن الخبر الذى تصدّر نشرة الأخبار عن فيروس قاتل تسلل لمدينة صينية سيقلب حياته وحياة عشرات فنانى الظل بمصر رأساً على عقب، فبقرار صادم أوقفت الحكومة جميع الأنشطة، وأطفأت القاهرة أنوارها، وحل السكون بشوارع المدينة التى لا تنام، وأغلقت المقاهى، وأصبح الفرح تهمة يعاقب مرتكبوها بالحبس والغرامة، وساد الصمت، فلا صوت يعلو على صوت الفيروس، وسط كل ذلك توقف عمل فنانى الدرجة الثالثة، وصمتت آلاتهم، وانقطع مصدر رزقهم، فلا موالد تنشد أو أفراح ومنشآت سياحية تطرب أو حتى مقاهٍ يستأنس زبائنها بفنون يسطع نورها بليل الدنيا لطالما كانت إحدى علامات مصر وقوتها الناعمة ليعيش أصحابها شهوراً بلا مورد رزق هجر بعضهم الفن بلا عودة، ولسان حالهم يُردّد مونولوج إسماعيل ياسين الشهير «عينى علينا يا أهل الفن»، فمثلاً تقف ورش محمد على فى انتظار الفرج بعدما توقف العمل تماماً عقب انتشار الفيروس، فأغلقت المقاهى أبوابها، ومنعت الأفراح.
شارع محمد علي: الفيروس يخنق الألحان.. والعازفون: ننتظر تحسن الأوضاع
صنايعية "بيت العود" هجروا المهنة بسبب لعنة الفيروس القاتل والمبيعات "صفر".. و"عفيفي": كنا ننتظر موسماً واعداً بعد تحسّن حركة السياحة وارتفاع المبيعات
يُعد شارع محمد على، أو كما خلّده التاريخ باسم شارع الفن، شاهداً على تاريخ طويل لمحال الآلات الموسيقية التى ظلت تعزف لعقود جنباً إلى جنب مع عمارتى يافا وحيفا، فهذا المكان كان المنجم والمورد الرئيسى لنجمات الرقص الشرقى قبل غزو الروسيات، وكانت المقاهى ملتقى فرق زفة الأفراح والتنورة، ويعتبر «بيت العود» أقدم ورشة لصناعة العود وآخرها بعد هجوم صناع الأثاث ومطابع الورق والقمصان ومحال الهواتف المحمولة ومستلزماتها، ووسط كل هذه المحلات الدخيلة التى غزت المكان، تقف الورشة التى ترك الزمن عليها بصماته صامدة بين عدة ورش لا يتخطى عددها أصابع اليد الواحدة فى انتظار الفرج بعدما توقف العمل تماماً عقب انتشار كورونا، فأغلقت المقاهى أبوابها، ومنعت الأفراح، وساد الصمت ليل الشارع الصاخب، وتوقفت الألحان.
38 عاماً قضاها «عفيفى»، الرجل الخمسينى، فى صنعة ورثها عن والده داخل ورشة بيت العود بشارع محمد على، وهى مهنة عشقها وطورها وأفنى فيها عمره، فورشته لم تتوقف ماكيناتها إلا فى زمن كورونا الحزين، ويُعد «عفيفى» شاهداً على أحداث جسام مر بها الوطن من تظاهرات 25 يناير وما بعدها بميدان التحرير، الذى يبعد مسافة بسيطة، وزلزال هز كيان مصر فى تسعينات القرن الماضى، وإرهاب حارب الفنون وأشعل متطرفوه النيران فى بعض محال الآلات، معلنين رفع رايات الحرب على فنون كانت رمز مصر وقوتها الناعمة فى المنطقة، إلا أن كل هذه الأحداث لم تسقط أساطين الفنون عن عروشهم أو تزحزح أقدامهم المتجذرة فى الأرض بقدم التاريخ، حتى جاء عام الوباء الحزين فتوقفت الحياة.
«شهدنا ما لم نشهده من قبل، أغلقت كل المعاهد والكليات الفنية أبوابها من تربية نوعية وتربية موسيقية ومعهد الموسيقى العربية وتوقف طلابها عن العزف حتى إشعار آخر، وهو ما أثر على حركة البيع بشكل كبير، فقد مرت علينا شهور دون أن نبيع عوداً واحداً»، بهذه النبرة الحزينة والمؤثرة تحدث «عفيفى» قبل أن يصمت قليلاً، ثم يبدأ عزف لحن حزين على أحد الأعواد المتراصة فوق بعضها بجوار عشرات الآلات الشرقية الأخرى، مثل الناى والقانون.
وتابع الرجل الخمسينى: «للمرة الأولى يلجأ الآلاتية لبيع آلاتهم ويلجأون إلى العمل فى مهن لم يتخيلوا العمل بها يوماً، لتترك أناملهم الناى والعود والجيتار وتدخل للعجين بالأفران والطلاء بالمنازل وحتى أدوات الصرف الصحى، وهو ما أثر علينا بشكل كبير، فقد توقف عن العمل 40 عاملاً وصنايعياً، كل منهم متخصّص فى جزء معين من الأوتار وكل هؤلاء كانت بيوتهم مفتوحة من عملهم بورشة العود بشكل كامل طوال شهور كورونا واكتفينا بفتح أبواب المحال حتى مواعيد الحظر فى الخامسة مساء كل يوم، لعل الله يمن علينا بعازف أو طالب أو حتى سائح فضّل البقاء بعدما أغلقت كل المطارات وتوقفت حركة الطيران واختفى السائح العربى أحد زبائننا الرئيسيين فى موسم كنا ننتظر أن يكون موسماً واعداً بعد تحسّن ملحوظ فى حركة السياحة عموماً، والعربية خصوصاً، وهو ما انعكس علينا فى ارتفاع المبيعات وتعاقدات التصدير للدول العربية، وهى سوق تعتمد على مصر بشكل كلى فى وارداتها من الأعواد قبل أن تأتى الانكسارة فى صورة فيروس أوقف الأعمال ومنع الوارد من الأخشاب والأوتار المستخدمة فى تصنيع الآلات».
على مقربة من بيت العود، حيث مقهى «حسن السواق»، أو مقهى أهل الفن كما يطلق عليه رواد الشارع وأصحاب الصنعة، يجلس محمد إبراهيم، أحد أشهر فنانى الزفة بالشارع فى انتظار زائر لحفل أو فرح أو حتى عيد ميلاد ينسيه أيام التوقف والحظر والعزل عن الدنيا.
"إبراهيم": عشنا أسوأ أيام حياتنا وبِعت آخر ما تبقى من مصاغ زوجتي
و"محمدي": توقفت الموالد ولا نملك سوى الدعاء لله
«ما حدث لا كان على البال ولا على الخاطر، عِشنا أسوأ أيام حياتنا، شهدنا ما لم نره من قبل، عمّ السكون الشارع للمرة الأولى، ترمى الإبرة ترن»، هكذا تحدث «إبراهيم»، واصفاً الحال فى الشارع، الذى كان يعج بالحياة على مدار 24 ساعة.
وأضاف: «حاولت النزول للعمل فى البناء أو الطلاء، لكن حتى ذلك كان حلماً صعب المنال بعدما توقفت أعمال البناء للتصالح، وعدت للمنزل من جديد، واضطررت لبيع آخر ما تبقى من مصاغ زوجتى، وكنا على شفا بيع أثاث المنزل لولا قرار عودة الأنشطة وفتح قاعات الأفراح، مما هون علينا وبدأت العجلة فى الدوران، ولكن أخشى أن تأتى الموجة الثانية بقرارات مماثلة لما حدث فى الأولى، وقتها لن نجد حتى ما نبيعه».
وعلى بُعد خطوات منه جلس محمدى طه «منشد»، فالتقط أطراف الحديث منه وقال: «كورونا نزلت علينا كالصاعقة وبخلاف الأفراح وحفلات التخرج أغلقت أبواب الأولياء والصالحين وتوقفت الموالد ومعها ليالى الذكر والإنشاد بعد أن كانت لدينا بشكل دورى خريطة معدة نتنقل فيها بين القرى والمراكز والمدن فى ليالٍ عطرة من الذكر والتضرّع والدعاء، ولكن لأن الموالد تشهد تجمعات كبيرة، وقد تكون بؤرة لنشر المرض توقفت تماماً، وحتى الآن لا تزال أضرحة الأولياء والموالد متوقفة، ولا نزال ننتظر ولا نملك سوى الدعاء لله مجيب السائلين».
مطرب مقاهي الحسين: كنت أعمل فراناً.. وعشقت العود منذ صغري
محمد الصعيدي: عشت على الكفاف أيام الوباء.. ودعوت حفيد الرسول لتمطر السماء "عيش باللحمة"
على بُعد خطوات من مسجد الحسين، وعلى رصيف مواجه لمقاهٍ يستجدى العاملون بها زبائن كان وجودهم يملأ المكان صخباً وضجيجاً، ويجذب فنانين يقتاتون مما يجود به محبوهم فى ليالٍ لم يخشوا فيها يوماً التقارب والسلام، بلا كمامات أو إجراءات احترازية فى عالم ما قبل الكورونا، يجلس محمد الصعيدى الرجل الستينى، ممسكاً عوده الذى أتت الأيام على أوتاره، حتى لم يتبق منها سوى ثلاثة أوتار وغيّرت ملامحه حتى أصبح بلا قمرة واستبدل بمفاتيحه قطع أخشاب تنكسر بين أنامله التى ينساب من بينها لحن أطلق عليه «وهم كورونا الحزين» بكلمات لا تكاد تميزها وغناء من فم فقد أغلب أسنانه راح ينشد: «قول يا رب ولا تخشى كورونا، ولا تستسلم للوهم».
«عشت ستة أشهر على الكفاف لم أذق خلالها طعم اللحم، وحين تبتسم لى الأيام بالقليل من جنيهات المعاش القليلة أسرع بشراء هياكل الدجاج وأجنحتها لى ولابنتى المطلقة وأبنائها الستة، وفى ليالٍ أخرى كنت أقف أمام مسجد الحسين، الذى أغلقت أبوابه فى وجه محبيه خشية وهم الكورونا، داعياً حفيد الرسول بنظرة إلى مريديه لتأتى السماء لنا بأرغفة خبز محمّلة باللحوم، ولا أنسى تلك الطبيبة التى أتت لى منذ شهر بنصف دجاجة من طعامها، وأصرت على أن آخذها، وأمام إصرارها قبلت وأسرعت بها لأحفادى، وتكرر المشهد نفسه منذ أيام، ولكن تلك المرة بـ200 جنيه من سيدتين من عشاق الطرب الأصيل لم تزورا المكان منذ انتشار الوباء، وكانت زيارتهما بشوق للمكان بحثاً عنى، وطوال ساعات أخذتا تستمعان لأغانى الطرب الأصيل أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش حتى قبل المغادرة فى منتصف الليل مع بدء تطبيق ساعات الغلق على وعد بعودة قريبة، فالسيدات دوماً هن الأكثر حنية، إحساساً بالآخرين، ولولاهن لما وجدنا من يشعر بنا أو يحنو علينا».
وعن علاقته بالعود والغناء، قال: «عشقت العود منذ صغرى وكنت أعمل فراناً قبل أن أقرر قبل 25 عاماً احتراف العزف، والتحقت بمعهد الأستاذ شفيق بعابدين وبعد إجادتى للعزف تركته وبدأت رحلتى بمنطقة الأزهر والحسين لا أغنى سوى لعشاق الطرب أغانى رموز الطرب زكريا أحمد وسيد درويش، بخلاف محبى المدح، الذى أخصص له يوم الجمعة من كل أسبوع بمقهى خلف مسجد الحسين فى عادة لم تنقطع لسنوات إلا خلال أشهر الكورونا التى عطلت فيها الصلاة وتوقفت ليالى العشق الإلهى ورُحنا نكتف وجوهنا بكمامات تضر من يرتدونها أكثر مما تنفعهم». وعما إذا كان يخشى موجة الكورونا الثانية، قال: «الذى خلقنا لن يتركنا، والذى يرزق النملة ونجانا من الموجة الأولى لن يتركنا، وسأذكركم يوماً بأن الكورونا ما هى إلا وهم كبير خدع العالم».
فرقة حسب الله: غيَّرنا المهنة.. وقائدها: حتى وقت النكسة كان فيه أفراح
"الفيومي": "الآلاتية" بيشتغلوا في الكهرباء والنقاشة والرزق بإيد ربنا
50 عاماً قضاها فى إحياء الأفراح والمناسبات السعيدة بين أعياد ميلاد وحفلات تخرّج وسبوع مولود وزفة عفش، كانت كفيلة بتنصيبه قائداً لفرقة حسب الله، بصفته آخر أفراد الفرقة الأساسيين، الذين تعلموا فنون العزف على يد صاحبها ومؤسسها محمد على حسب الله. على مقعد متواضع فى مقهى نجيب السواق بشارع محمد على، جلس عزت الفيومى يرد على هاتفه المتواضع الذى لا ينقطع عن الرنين، بعد غياب استمر شهوراً كان الطلب فيها قليلاً، نتيجة الحظر وسياسية الإغلاق التى أقرتها الدولة فى مارس الماضى، بسبب انتشار فيروس كورونا، والتى كان من بينها غلق قاعات الأفراح، تجنباً لأى تجمعات تسبّب انتقال العدوى.
يستقبل «الفيومى» رنات الهاتف بابتسامة يغلبها التعطّش إلى العمل، مؤكداً لمتصليه أنه قائد فرقة «حسب الله» الأصلية، التى شاركت عبدالحليم فى فيلم شارع الحب، وشارك فى أعمال فنية ودرامية من مسلسلات تليفزيونية وأفلام سينمائية وأعمال مسرحية يفتخر بها حتى الآن. سنوات طويلة، عمل بها الرجل السبعينى مع زملائه من الفرقة، التى تقلص عددها إلى 5 أفراد بعد أن كانوا 40 فرداً، متذكراً بداية عشقه للفن عندما كان فى قريته بمحافظة الفيوم يستمع إلى السهرات التى كان يقيمها الأهالى أمام منزله على أضواء الكلوبات، ويرى أحد الفنانين الذين يعزفون على آلة الترومبيت، التى وقع فى سحرها، ليذهب إلى عازفها طالباً منه الانضمام إلى فرقته، فوافق العازف ومن هنا بدأت رحلة الفيومى، متنقلاً بين الأفراح والموالد فى محافظات بحرى وقبلى، مرة ممسكاً بالطاسات وأخرى بطبلة، إلى أن وصل إلى العزف على آلة الترومبيت.
كان الترحال الدائم لـ«الفيومى» وفرقته بين المحافظات، حتى انتهى به المطاف إلى شارع محمد على، ليلتقى بفرقة محمد على حسب الله، وهى الفرقة التى كان قائدها أحد العازفين الرئيسيين فى فرقة السوارى بقصر عابدين، وكان «حسب الله» يتعلم من «الفيومى» وفرقته العزف الشرقى على الآلات الغربية، مثل الترومبيت والكلارينت، مقابل أن يتعلم أعضاء فرقة «الفيومى» العزف الغربى، وطريقة العزف على النوتة، وبمجرد أن انتهت خدمة «حسب الله» فى القصر الخديوى، قام بتأسيس فرقته الخاصة، التى كان «الفيومى» واحداً من أعضائها، الذين تخطوا 40 فرداً، ونالت شهرة كبيرة فى إحياء الأفراح والمناسبات السعيدة، ووصلت الفرقة إلى أوج شهرتها بعد ظهورها فى فيلم «شارع الحب» مع عبدالحليم حافظ وعبدالسلام النابلسى.
ظروف صعبة كثيرة مرت على الفرقة، وعاصرها «الفيومى» أدّت إلى توقف العمل، لكن لفترات قليلة كان أبرزها هزيمة 67، ووفاة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ووفاة الفنان عبدالحليم حافظ، بسبب إعلان الحداد، وعن هذه الظروف، قال: «رغم صعوبة الظروف، خاصة النكسة، ووجود حالة من الحزن العام لدى المصريين، فإن الأفراح لم تتوقف، وكانت تتم دعوتنا، لكننا لم نمر بظروف صعبة مثلما حدث خلال فترة الإغلاق خلال الموجة الأولى لفيروس كورونا، التى تزامنت معها قرارات بغلق قاعات الأفراح والحظر».
وأضاف: «حتى الحالات القليلة التى تمت دعوتنا فيها لإحياء الأفراح كانت فى المنازل، وكانت لا تستغرق سوى ساعتين على الأكثر، وكنا نهم بالتحرّك سريعاً حتى لا نكسر الحظر ونتعرّض للمساءلة القانونية»، مشيراً إلى أنه خلال هذه الفترة كان يتوجّه إلى مخزن الفرقة فى شارع محمد على رغم معارضة أولاده وزوجته، خوفاً من تعرّضه للإصابة بفيروس كورونا، خاصة مع كبر سنه، ليقوم بإصلاح بعض الآلات الموسيقية لبعض الفرق أو الطلاب الذين لم يتمكنوا من شراء أدوات موسيقية جديدة، وواصل: «كانوا خايفين عليّا بس ماكانش قدامى حل غير الشغل، وماعرفش أشتغل حاجة غير العزف أو تصليح الآلات الموسيقية».
وعن باقى أفراد الفرقة، قال: «كل واحد بدأ يرجع لمهنته القديمة، فيه واحد منهم رجع اشتغل فى الكهرباء والثانى اشتغل فى النقاشة، ونتمنى أن تمر الموجة الثانية بخير، وألا تتعرّض البلاد للإغلاق مرة أخرى، لذلك يجب أن يلتزم المواطنون بالإجراءات الاحترازية، وأن يحافظ كل شخص على نفسه، وفى الآخر الرزق فى إيد ربنا واحنا عشمنا فيه كبير».
أول راقصة تنورة: نعيش بلا تأمين أو مصدر دخل ثابت بعد توقف السياحة
"هنا": النقابة تجاهلتنا ونطالب بنظرة أكثر شمولية لأننا فئة بعيدة عن الأضواء
وسط قاعة شبه مظلمة وعرض من نوع خاص ويد ترتفع تضرّعاً إلى الله، والأخرى متجهة إلى الأرض بدوران عكس عقارب الساعة فى عرض يمتد لمدة نصف الساعة من رقص التنورة والمولوية ينتهى بمفاجأة غير متوقعة، وهى أن العرض تقدّمه سيدة، وهى «هنا مصطفى»، أول راقصة تنورة فى مصر، فى مشهد غير مألوف للجمهور بعد أن كوّنت مع أسرتها التى تضم زوجها ومعلمها شريف عبدالخالق، وابنيها «آسر ومحمد» فرقة من نوع مختلف، تعشق رقص التنورة، وتحلم بتكوين فرقة من الفتيات.
«خلال أزمة كورونا، رغم أننا متضررون، لم يضعنا أحد فى الحسبان، ورغم أننا نمارس المهنة من خلال تراخيص نقابية فإن الجهات النقابية لم تتحرّك لدعم الفئات التى وجدت نفسها بين ليلة وضحاها بلا مصدر دخل»، هكذا تحدثت «هنا» عن الأزمة الطاحنة التى تمر بها هى وفرقتها.
وتابعت: «أعمل فى التنورة منذ أكثر من 17 عاماً، حيث تولى زوجى تدريبى بعد أن لاحظ عشقى لهذا النوع من الفن، ولم يعترض أهلى، وسريعاً احترفت العمل، وكوّنت وزوجى أول فرقة من نوعها شاركنا بها فى مهرجانات دولية وزُرنا بلداناً عدة، ووصل الأمر إلى قيامى بتدريب أجنبيات فى مناسبات ومهرجانات قبل أن تضربنا كورونا فى مقتل بعد توقف كل الأنشطة الفنية من مهرجانات واحتفالات، وتوقفت المراكب العائمة والأنشطة السياحية، وهو ما أوقف عملنا بشكل كلى، وقضينا أياماً بالمنزل بين الخوف من المرض على زوجى وأبنائى، وغد غامض لا نعرف ملامحه». وأضافت: «فى الوقت الذى يعرض فيه كل مضار من الأزمة وجهة نظره، لم يلتفت أحد لمشكلتنا، فنحن بلا تأمين أو مصدر رزق ثابت، ونحن فئة ليست بالقليلة، والمشكلة أن الأزمة هذه المرة ليست فى منطقة واحدة، مثلما حدث فى 2011، ولا حتى فى مصر فقط، ولكنها فى العالم كله، لذا فلا مهرب ولا بديل فى ظل وجود موجة ثانية من كورونا عن نظر المسئولين إلينا بشكل أكثر شمولية، لأننا فئة بعيدة عن الأضواء».
عازفا مزمار: "40 سنة عزفاً.. وقعدنا
في البيت 6 شهور.. ولمّة الناس وحشتنا"
"محمد وشعبان": كنا شايلين قرشين صرفناهم.. وأول فرح بعد الحظر رُحناه بالكمامات.. والمزمار البلدى له ناسه.. وأكتر ناس بتحبه "الأجانب والعرب والصعايدة"
توارثا مهنة المزمار والطبل البلدى أباً عن جد، محافظين على تراث ممتد، يرى «محمد عبدالوهاب» وأخوه الصغير «شعبان» أنه متوارث من أيام القدماء المصريين، حيث ظهرت آلات المزمار على جدران المعابد المصرية القديمة، 4 عقود ربما تنقص أو تزيد، كانت عمر «محمد» فى العزف على المزمار البلدى، بينما عقدان ونصف العقد هى عمر «شعبان» فى الطبل البلدى، متنقلين بين محافظات الصعيد المختلفة لنشر بهجة المزمار الذى يعشقه أبناء الصعيد، قبل أن يستقر به الحال فى حى إمبابة بالقاهرة، متنقلاً بين المقاهى والفنادق السياحية والأفراح، للعزف على المزمار، بينما يساعده أخوه بالقرع على الطبلة البلدى، استمر الحال على ما هو عليه، لكن كل شىء تغير بين ليلة وضحاها، خاصة مع حلول منتصف مارس الماضى، عندما أعلنت الحكومة فرض سياسة الإغلاق، التى ترتب عليها غلق المقاهى وقاعات الأفراح وتبعها أيضاً توقف حركة الطيران، وبالتالى توقف حركة السياحة، ليفقد الأخوان مصدر رزقهما، ويجلس كل منهما فى المنزل، انتظاراً للفرج، داعين الله بفك الغمة ورفع البلاء.
يقول «محمد»: «جلسنا 6 أشهر فى المنزل، وكنا شايلين قرشين على جنب بدأنا نصرف منهم على البيت، والتزمت أنا وزوجتى وأولادى المنزل، حتى عندما كان يطلبنى أحد لإحياء فرح فى المنزل، كانت زوجتى ترفض، خوفاً من أن أصاب بالفيروس، خاصة أننا لدينا أولاد فى سن صغيرة، وكنت أتوجه إلى الشارع فقط لشراء متطلبات المنزل، وكانت زوجتى تصر على ارتداء الكمامة وعدم مصافحة أى شخص بالأيدى، الفترة دى كانت صعبة على الكل، عمرنا ما مرينا بالظروف دى، لكن فى الآخر ده وباء ربنا وحده قادر على رفعه، واحنا ماكانش فيه فى إيدينا حاجة غير الصبر».
أكثر ما كان يفتقده «محمد وشعبان» هو «التجمعات»: «أكثر حاجة وحشتنى لمة الناس، إحنا شغلنا كله قايم على لمّة الناس والرقص والتجمعات وخلق حالة من الفرحة، مرة واحدة بقى مطلوب مننا نقعد فى البيت، مفيش اختلاط ولا تجمعات ولا زيارات، وهو أمر لم يمر علينا خلال فترة شغلى فى المهنة واللى عدت 40 سنة». يتذكر «محمد» الحياة قبل الكورونا، بابتسامة وعين لامعة، مردداً : «المزمار البلدى ده له ناسه، أكتر ناس بتحبه الأجانب والعرب والصعايدة، الأجانب مش بس بيستمتعوا بالمزمار البلدى، لا كمان بيقعدوا يسألوا عنه وعن تاريخه ويحبوا يسمعوا حكايات عنه، أما الصعايدة فالمزمار عندهم أساسى، حتى بعد ما سابوا الصعيد وراحوا القاهرة ومحافظات تانية هتلاقى تجمعات الصعايدة لازم يكون فيها مزمار زى عزبة الصعايدة فى إمبابة والجعافرة بإسكندرية».
تخوّفات كثيرة يواجهها الأخوان، خاصة فى ظل الاقتراب من وجود موجة ثانية لفيروس كورونا تتزامن معها تصريحات من قِبل رئيس الحكومة، بضرورة الالتزام بالإجراءات الاحترازية، وهى أن يتم الإغلاق مرة أخرى، لينظر «شعبان» بحزن، متسائلاً: «هل سنعود لما كنا عليه بموجة ثانية؟ لن نتحمّلها سنموت حزناً قبل أن يطالنا الفيروس فبعد عودة الحياة بشكل طبيعى بدأنا نعود إلى العمل تدريجياً بعد توقف 6 أشهر وبدأت السياحة تعود وإن كانت بنسبة ضئيلة، ونتمنى من الدولة إلا تعود إلى سياسة الإغلاق مرة أخرى، لأننا لم تعد نتحمّل الجلوس فى منازلنا مرة أخرى»، متمنياً أن يتم الالتزام بالإجراءات الاحترازية والتباعد الاجتماعى وتوقيع غرامات على المخالفين، بدلاً من ذلك، متذكراً أول يوم يعود فيه إلى العمل هو وشقيقه بعد رفع الحظر، حيث كان مطلوباً لإحياء أحد الأفراح، مردداً: «كنا خايفين ننزل بس اضطرينا علشان لقمة العيش، رُحنا الفرح واحنا لابسين الكمامات ولم يستغرق منا إحياء الفرح سوى ساعة واحدة، عملنا شغلنا ورُحنا بيوتنا على طول».