هيئة أحمد مكى
كل الذين لعنوه، حين جلسوا مكانه، اتبعوا خطاه، وترحموا عليه. إنها الحكمة السابغة التى ترسّخ فى تربتنا المستبدة كل يوم. فها هو المستشار الذى عشنا زمناً طويلاً نظن أنه يدافع عن «الحق» و«الحقيقة» ولا يروم سوى «العدل» و«العدالة» يفاجئنا بأشياء لم ترد على بال ولا خاطر، ولا حسبنا يوماً أنه من الممكن أن يأتى على ذكرها، وهو هائج مائج منتفخ فى وجه كل من يحاول أن يستفهم منه، أو ينتقد مسلكه، أو يبدى على أقواله وأفعاله ملاحظات، ولو من باب العتاب، أو سد الذرائع.
فبعد بضعة أيام من حديثه عن أن «قانون الطوارئ» قد وردت إشارة إليه فى «القرآن الكريم»، فى ظل إصراره على فرضه علينا، عاد ليلقى فى وجوهنا ما سماها «هيئة تشريعية» تنتج القوانين فى غيبة مجلس الشعب، غير المأسوف على رحيله لانخفاض كفاءة من فيه بغض النظر عن مماحكات القانونيين وتخريجاتهم الملتوية. ويعتقد مكى أن الناس ستُلدغ من الجحر مرات ومرات، مثل ما جرى لهم منذ أن وصل إلى السلطة من أتوا به إلى الوزارة، وهو منهم وإن تخفّى، وعلى طريقهم وطريقتهم، وإن توسّل بكل فنون المواراة والمداراة، ولا صناعة له الآن سوى أن يساعد فى تفصيل كل القوانين على مقاس تمكنهم واستمرارهم حتى ولو بحد التغلب، أو شريعة الغاب.
فالشكل براق، والجوهر ترقد فيه عتمة الليل البهيم، تماماً مثل ما كان يتم أيام المخلوع. إذ يقول مكى إنه أرسل مشروع قانون بشأن تلك الهيئة إلى المؤسسات الحقوقية لتدرسه، بعد أن اختار من يرسل إليهم، ثم إنها ستتكون من ممثلين عن مؤسسات مختلفة، ولا يدرى أننا فهمنا اللعبة، وأن التمثيل فى أغلبه يأتى من دوائر الإخوان (العاملون والمنتسبون والمتعاطفون والمتأخونون والمؤلفة جيوبهم ومن لا صناعة لهم سوى مات الملك.. عاش الملك) وبالتالى تتحكم الجماعة فى التشريع، الذى إن كان الرئيس قد أعطاه لنفسه، فعلى الأقل سيكون مسئولاً إن لم يكن بالإعلان الدستورى فبحكم مراقبة أدائه من الناس وخوفه هو على مستقبله السياسى ثم بالدستور الذى ننتظر ولادته، كما أن ما سيصدره من قوانين سيُعرض على مجلس الشعب حال التئامه، بينما هيئة مكى ستسرى قوانينها بلا مراجعة.
وهذه الهيئة ستسن التشريعات التى تمكّن الإخوان أكثر من رقبة الدولة ومفاصلها، إذ إنها ستصدر قوانين الانتخابات المحلية والبرلمانية وقانون للمعلومات وآخر للصحافة، التى يضيق بها المستشار ذرعاً بعد أن رفعته فوق الهامات وأنصفته وأعلت من قدره فى وجه نظام مبارك. وبذا ستتيح هذه الهيئة له أن يصفى خلافاته وحساباته مع الصحفيين وقضاة المحكمة الدستورية. كما أن إصراره على تكوينها يؤشر إلى الرغبة فى إطالة الوضع الاستثنائى، حيث يغيب مجلس الشعب ويتمهل صانعو الدستور ليستمر الرئيس وهيئة مكى متربعين على السلطة، لا سيما أن هذه الهيئة ستمكّن السلطة التنفيذية أكثر من التحكم فى نظيرتها التشريعية.
وسيقول مكى: ما بالكم لا تفقهون حديثاً، ولمَِ ترضون باستمرار إعطاء الرئيس حق التشريع لنفسه وترفضونه لهيئتنا «الموقرة»؟ وسنقول له: لأنها ديكور سيعفى الرئيس من المحاسبة المباشرة، ويحصّن القوانين من العرض على البرلمان، مع أن إنتاجها سيصادف هوى الرئيس النازع بسرعة الصاروخ إلى الاستبداد ويحمى مصالحه ويوافق توجهات جماعته، ولأنها طلاء ملون يخفى خلفه آلافاً من ترزية القوانين، الذين كنت أنت تهاجمهم بملء فِيك حتى قبل شهور قليلة.