د. هاني سويلم يكتب: الصامدون أمام الزحف العمراني العشوائي

د. هاني سويلم يكتب: الصامدون أمام الزحف العمراني العشوائي
- الزحف العمراني العشوائي
- المساحات الزراعية
- الأراضي الزراعية
- العشوائيات
- الزحف العمراني العشوائي
- المساحات الزراعية
- الأراضي الزراعية
- العشوائيات
يُعتبر الامتداد العمرانى لأى مدينة محركاً أساسياً للتنمية بشرط أن يتم فى إطار تخطيط وتنفيذ مؤسسى. أكثر المناطق تأثراً بالامتداد العمرانى هى المناطق الزراعية الخضراء، وهى المناطق التى لها تأثير حيوى على الأمن الغذائى وتقليل نسبة ثانى أكسيد الكربون فى الهواء وتنقيته. التوسع العمرانى وامتداد المدن ضرورة ليس فقط فى مصر، حيث يتوقع العالم أن يعيش 68% من سكان الكرة الأرضية فى المدن وامتداداتها بحلول عام 2050. فى مصر نحو 43% من السكان يعيشون فى المدن. الزحف العمرانى غير الرسمى أو العشوائى أسهم بشكل واضح فى التأثير على تناقص الرقعة الزراعية وكذلك تكوُّن مناطق عشوائية غير مخططة. تقدر المساحة المفقودة من الأراضى الزراعية سنوياً بنحو ٢٥٢ كيلومتراً مربعاً، وهو رقم مزعج وخطير. بالإضافة إلى فقدان المساحات الزراعية الخضراء، يتسبب هذا الزحف العشوائى فى تفتيت الرقعة الزراعية أى وجود مساحات زراعية صغيرة وسط مبان عشوائية وشوارع غير مخططة تحاصر المساحات الخضراء المتبقية وتحرمها من وصول المياه والمعدات وغيرها من متطلبات العملية الزراعية. كل هذا يرفع تكلفة الزراعة على الفلاح الذى أصبح محاصراً بمثل هذه العشوائيات، حيث يواجه الفلاح الذى يتمسك بأرضه ويصر على الاستمرار فى زراعتها وعدم التفريط فيها ببيعها أو البناء عليها ضغوطاً عديدة.
حاولنا أن نفهم المشكلة حتى نساهم مع صنّاع القرار فى الحل عن طريق بحث مهم جداً قمنا به من خلال الجامعة الأمريكية بالقاهرة والذى قامت به الباحثة الشابة آية يوسف وشرفت بالإشراف عليها بمشاركة الأستاذة الدكتورة زينب خضر. اهتمت الدراسة بعوامل كثيرة مؤثرة ومتأثرة بظاهرة التمدد العمرانى العشوائى، من ضمنها ملكية الأراضى واستخداماتها، التأثير على جودة المياه، استخدام المبيدات، نوعية وجودة المحاصيل، والعديد من الآثار الاجتماعية والاقتصادية على الفلاح المصرى. فى هذا المقال سوف ألقى الضوء فقط على التحديات التى يواجهها المزارع الذى ما زال متمسكاً بأرضه، وسأحاول أن أبتعد عن التفاصيل الفنية المعقدة، وهى كثيرة فى هذا البحث، بهدف تبسيط الرسالة للقارئ وكذلك صناع القرار.
منذ خمسينات القرن الماضى تتضخم القاهرة الكبرى على حساب الأراضى الزراعية الخصبة لتتشكل أراض ممزقة وتأثيرات اجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة. تشير البيانات إلى أن 62% من القاهرة الكبرى و87% من الجيزة مناطق غير رسمية ناتجة عن التمدد العمرانى العشوائى. معظم هذه المبانى تم بناؤها على أراضٍ زراعية يمتلكها أصحاب هذه المنشآت. لا يخفى على أحد تأثير هذا التمدد العمرانى على إهدار أجود الأراضى الزراعية فى مصر والتى تكوّنت من طمى النيل على مدار التاريخ. وزادت التعديات على الأراضى الزراعية بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، حيث تضاعف البناء المخالف لمرتين ونصف عما كان عليه من قبل.
الصدمة الحقيقية عندما تتبع الهجوم العشوائى للمبانى على الأراضى الزراعية فى فترة من الزمن، وهو ما قمنا به فى قرية ترسا، وهى إحدى القرى التابعة لوحدة منيل شيحة الإدارية بمركز أبوالنمرس، بمحافظة الجيزة. لتكون المفاجأة.. زحف رهيب فى عشر سنوات ما بين 2007 و2017، حيث فقدت ترسا 19% من مساحة الأراضى الزراعية، وهو ما يظهر فى الصورة، وهى تجميع لصور جوية عبر السنوات العشر موضح عليها اختفاء الأراضى الزراعية لحساب مبانٍ عشوائية. وكما نتحدث كثيراً عن التعديات على الأراضى الزراعية أود هنا أن أسلط الضوء على مُلاك الأراضى المفتتة التى أصبحت محاصرة بمبانٍ وشوارع عشوائية. فهؤلاء يتعرضون لضغوط فنية واجتماعية واقتصادية شديدة. على سبيل المثال، نظراً لعدم وجود شبكات صرف تواكب التطور العشوائى تتسرب مياه الصرف الصحى من المنازل إلى المياه الجوفية، ويتم إلقاء مخلفات المنازل فى الترع، مما تسبب فى تدهور شديد فى جودة المياه السطحية والجوفية فى هذه المنطقة. وهنا لا يجد الفلاح المحاصر غير أن يضخ مياهاً جوفية لعدم تمكنه من الوصول للترعة، أو يسحب من الترعة المثقلة بمخلفات المنازل. بالإضافة إلى ذلك ارتفعت نسبة ملوحة المياه، وهو ما تسبب فى تراكم الأملاح فى التربة وخاصة منطقة جذور النبات، مما أضر بإنتاجية الأرض وكفاءتها. كل ذلك أجبر المزارعين عن التوقف عن زراعة المحاصيل الغذائية مثل القمح، والذرة، والخضراوات والفاكهة، والتوجه إلى زراعات أخرى كالبرسيم.
تدهور جودة التربة أدى إلى اضطرار المزارعين لاستخدام كميات أكثر من الأسمدة، مما رفع تكلفة الزراعة وأدى إلى تدهور جودة المنتج الزراعى. ليست هذه هى المشكلة الوحيدة التى تواجه هذه الفئة من المزارعين الأبطال فى مثل هذه المناطق، ولكن أيضاً مع نقصان المساحة المنزرعة قل الطلب على العمالة الزراعية، مما ساعد على تحول العمالة من مجال الزراعة إلى مجال المعمار، فارتفع سعر يومية العمل فى الزراعة فى عشر سنوات إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف مع انخفاض ملحوظ فى عدد ساعات العمل اليومية. بالإضافة إلى هذه التحديات الفنية والاقتصادية، فإن وجود المساحات الزراعية وسط المناطق السكنية خلق نوعاً من المشاكل الاجتماعية لتعارض الاستخدامات والأهداف بين المزارع وقاطنى المساكن المحيطة.
كل هذا يوضح حجم الضغوط التى يتعرض لها المزارع الوطنى الذى يصر على الصمود أمام كل هذه التحديات ليذهب لأرضه كل صباح أملاً فى الحفاظ على زراعته ومواجهة كل الإغراءات مثل ارتفاع سعر أرضه بعد أن أصبح الحديث عن سعر المتر المربع وليس بالفدان. هؤلاء الفلاحون يحتاجون منا المساعدة والوقوف بجانبهم وتحفيزهم لأنهم هم الصامدون الحقيقيون أمام الزحف العمرانى العشوائى.
ويوضح هذا البحث أن التنمية، وخصوصاً المستدامة، لا يمكن أن تعتمد على العشوائية، بل إن هذا التمدد العمرانى العشوائى عائق أساسى للتنمية التى نتمناها وهى التنمية المستدامة التى تم وضعها فى رؤية مصر 2030. بالتأكيد وقف هذا التمدد هو جزء من الحل ولكن الجزء الآخر هو الوقوف بجانب الفلاح الذى أصبح محاصراً بين العشوائيات ليستمر فى العملية الزراعية ولا يفقد الأمل ويترك الأرض كما فعل الآخرون. وهذا البحث المشار إليه يقترح إطار عمل متكامل لتحديد المشاكل المترتبة على هذه العشوائية وكيفية التعامل معها. على سبيل المثال تحديد النقاط المسببة لتلوث المياه الجوفية وتوصيلها بأقرب شبكة صرف صحى أو استخدام وحدات معالجة صرف صحى لا مركزية، وهناك بعض الأبحاث الجيدة التى لا بد من الاستعانة بها فى هذا المجال لتخفيف العبء عن الدولة والإسراع فى تغطية هذه المناطق بمعالجة مياه الصرف الصحى بطريقة لا مركزية علمية ومضمونة. كذلك ننصح بإعادة تأهيل هؤلاء الفلاحين للتعامل مع المحددات والظروف الجديدة لاستمرار العملية الزراعية، فمثلاً مساعدتهم فى التركيب المحصولى، نوع وكمية الأسمدة والمبيدات التى تتناسب مع الوضع الجديد للمياه والتربة، وكذلك التداخل بين المبانى والأراضى الزراعية بغرض تحجيم الآثار الاقتصادية والبيئية السلبية على العملية الزراعية. بالإضافة إلى توعية الأهالى القاطنين لهذه المنازل العشوائية بأهمية العملية الزراعية وكيفية التعامل والتعايش مع هذا التداخل. ختاماً لا بد أن يشعر هؤلاء الصامدون بأن هناك تقديراً ومساندة لتمسكهم بالزراعة رغم كل التحديات. خالص التحية والتقدير لكل فلاح مصرى مخلص.