(السيبرانى).. إطلالة ساخرة على وسائل التواصل
مؤخراً تحولت وسائل التواصل الاجتماعى لسبورة ضخمة نكتب عليها تفاصيل حياتنا كلها، هذه هى الحقيقة التى أدركها الكاتب أكرم القصاص، وعالجها بسخرية، وبقدرة على التقاط المفارقة والابتسامة فى كتابه الأخير (السيبرانى.. اضغط هنا).. ينتمى الكتاب إلى فئة التحليل الاجتماعى غير الأكاديمى.. حيث تقترب المسافة كثيراً ما بين الصحافة وعلم الاجتماع (الأنثروبولوجى)، ويبادر الصحفيون بسرعة يتسم بها أداء الصحافة عموماً، إلى سد النقص الناتج عن بطء الأكاديميا بشكل عام، وعن تدهور أقسام الاجتماع فى الجامعات المصرية بشكل خاص.
وإلى جانب هذه النظرة التحليلية المقترنة بالوصف، ورصد العيوب، وتجسيدها، ثمة حس فكاهى ساخر، يسير فيه الكاتب على درب كاتب كبير مثل محمود السعدنى، فى تأثر مبدع ومطلوب، حيث اندثرت الكتابات الساخرة أو كادت باستثناء اسم أو اثنين لامعين.. ثم لا أحد.. فى هذا الكتاب يعيد الكاتب طرح نفسه ككاتب ساخر موهوب سبق له الفوز بجائزة أحمد رجب فى الكتابة الساخرة، وندهته نداهة الصحافة اليومية التى هو أحد محاربيها الذين يدعون للقتال ولا يدعون للمنادمة.
يناقش الكتاب وسائل التواصل الاجتماعى، وتعاظم دورها فى حياة البشر عموماً، والمصريين خصوصاً، ويلتقط تحولها إلى مرايا عاكسة تعكس التشوهات التى لحقت بالشخصية المصرية أو بأشخاص البشر عموماً، فهو يرصد مثلاً فكرة (التخفى) على وسائل التواصل الاجتماعى، وانتحال البعض لأسماء ليست أسماءهم ولصفات ليست صفاتهم، وهى فكرة ثرية للغاية، تصلح بذرة لأعمال أدبية عن أولئك الذين يتخفون خلف واجهات تعكس رغباتهم الخفية.
وإلى جانب التخفى يطرح الكتاب أيضاً فكرة (الادعاء)، حيث تتحول وسائل التواصل الاجتماعى إلى ساحة للادعاء، حيث يدعى الجاهل أنه عالم، والجبان أنه شجاع، والنكرة أنه صاحب تاريخ. ولعلنا نرى أمثلة لذلك على أرض الواقع القريب والمعاصر. بجانب الادعاء والتخفى ستجد فكرة أخرى هى استبدال الواقع الحقيقى بالواقع الافتراضى، حيث تحولت وسائل التواصل إلى مكان لتبادل العزاءات والتهانى، والتظاهرات، والمشاعر العاطفية، وهو ما يهدد بأن تتحول وسائل التواصل إلى بديل كامل للواقع.
وتحت عنوان جذاب هو (سلطة الهاشتاج) يناقش الكتاب فكرة الحشد الافتراضى الذى لا يغير من حقيقة الأمور على الأرض، ويناقش كذلك ما يمكن تسميته بظاهرة (الاحتفاء بالتفاهة)، حيث تحصل كتابات تافهة ومنقولة من الآخرين على مئات (اللايكات) بينما لا تتلقى الكتابات الجادة مثل هذا الاحتفاء، وقد يرجع هذا لشهرة كاتب (البوست) أو لجوئه للتسويق الإلكترونى، أو استخدام الكتائب الإلكترونية المستأجرة، ويشير الكتاب إلى واقعة إغلاق إدارة موقع تويتر للحسابات الوهمية، وهو ما أدى مثلاً لفقدان حساب أمير قطر لأكثر من مليونى متابع.
ولعل من أذكى اللمحات فى الكتاب ما جاء تحت عنوان (الجاسوسية الطوعية)، وفيه يقارن الكاتب بين نموذج (الأخ الأكبر) الذى تحدث عنه الكاتب البريطانى (جورج أوريل)فى روايته ١٩٨٤ ورمز به للنظام الشيوعى الستالينى، وبين سطوة وسائل التواصل على حياة الناس، ومعرفة إداراتها المختلفة لأدق تفاصيلها، واستخدام ذلك ضمن نظام هيمنة كبير يبدأ بالتسويق وطرح الإعلانات على المستخدمين، وينتهى بأشياء أخرى قد لا تبدو غامضة، ويعيد الكاتب التأكيد على الفكرة فى أجزاء أخرى من الكتاب، وهو يلتقط مجموعة من القيم السلبية التى ترسخها السوشيال ميديا، مثل أن تصبح البطولة للقطة، للإيفيه الذى يضرب مع الناس، وليس للقيمة الحقيقية، ومثل نهاية زمن البطل التاريخى المطلق مثل مصطفى كامل، أو صلاح الدين الأيوبى مثلاً، وظهور البطل المؤقت الذى يشغل الناس على وسائل التواصل ليوم أو اثنين ثم يختفى فى صمت كما ظهر فجأة مثل بائع الفريسكا مثلاً، أو سيدة القطار، أو غير ذلك من الأمثلة. ومن رصد التسريبات الشخصية التى أصبحت وسائل التواصل مسرحاً لها، إلى الحديث عن تزوير الحقائق على هذه الوسائل لا يتوقف الكتاب إذن عن رصد المفارقات المثيرة فى عالم السوشيال ميديا.. فيما يشبه هجائية طويلة مصاغة بأسلوب ساخر وبقدرة على رصد الحقائق وتحليلها، وهو أمر نحتاجه جميعاً فى هذه الأيام.