«سلامة غذاء».. أم «تكسير» عظام مصدِّرين؟

لا أحد يرفض أن تكون مصر بين قائمة الدول التى تحظى بهيئة قومية لسلامة الغذاء، حتى تدخل قائمة «الدول البيضاء» فى سجل التصدير العالمى.

لكن أن ننتظر مولوداً أكثر من 20 عاماً، ونتحمل آلام مخاضه، ثم يأتى مشوهاً، فهذا ما يصيب أهله بالغصة، وضيق الصدر، حتى وإن كان مجرد شهادة نرفقها بملف أو نعلقها على الحائط فى برواز.

وجود هيئة لسلامة الغذاء فى أى دولة تفرضها قوانين دولية، التزاماً بدستور الغذاء العالمى الذى أقرته منظمة الأمم المتحدة للأغذية «فاو»، وهى الاتفاقية الموازية أو التوأمة لاتفاقية الصحة النباتية «كودكس»، ولكل منهما اختصاصات تحددها لائحة تنفيذية، ويجمع بينهما فى الحلال «الحجر الزراعى»، بصفته الممثل الشرعى والقانونى الدولى لمنظمة الـ«فاو». يتناسى رئيس الهيئة أو يتجاهل أن دورها الحقيقى هو تدقيق كل ما هو غذاء موجَّه للاستخدام الآدمى، أو الحيوانى أو السمكى، لأن العنصرين الأخيرين سوف يتحولان أيضاً إلى غذاء آدمى، لتتحدد واجبات رجالها فى الكشف على الأغذية المصنّعة فعلاً للتناول، مثل: اللحوم والأسماك والألبان، والخضراوات والفواكه، فى منافذ بيعها، إضافة إلى الأعلاف فى محلات توزيعها، بعد أن ينتهى تدقيقها فى المركز الإقليمى للرقابة على الأغذية والأعلاف، التابع لمركز البحوث الزراعية. للأسف، يترك رجال هذه الهيئة دورهم الحقيقى، ليتفننوا فى صياغة قالب يأخذ شكل اللائحة ويخاصم مضمونها المتعلق بالكشف على كل ما هو غذاء لتدقيق طريقة تصنيعه، وتعبئته، وتخزينه، ثم عرضه، وذلك قبل وصوله إلى فم المستهلك ومعدته. تفرَّغ هذا الجهاز «مهيب الركن» لمتابعة الاشتراطات والبنود التى وضعتها الهيئات المثيلة فى السعودية وبعض الدول الأخرى للمصانع التى ينبغى لها أن تصدِّر ناتج حاصلاتنا البستانية والحقلية إليها، للدرجة التى بلغ فيها عدد البنود الواجب توافرها فى مصنع يحصل على شهادة «هيئة سلامة الغذاء السعودية» نحو 138 بنداً، لا تؤهل لأكثر من الوصول إلى أسواق المملكة، كأنها عقد إذعان، وشروط تعجيزية لا نقابلها بالمثل فى أى معاملات أخرى، حيث لا نستورد أغذية أو حاصلات بستانية من السعودية. هذه الاشتراطات، أو «المانفستو»، دفع المصدِّرين وأصحاب مصانع الأغذية لإدارة ظهورهم إلى الدول التى تعمل الهيئة معها على طريقة «مَلَكى أكثر من الملك»، مثل السعودية والخليج العربى، وهى الدول الشقيقة التى بالغت فى شروط صادراتنا من الحاصلات الزراعية أو الغذائية عامة، لدرجة أنها ترفض معاملتها كالحاصلات أو الصادرات اليمنية مثلاً.

وحتى لا يظن رئيس الهيئة، وهو عالم من الطراز الأول، وحائط سد منيع ضد الفساد والفاسدين، حتى لا يظن أن هذا المقال موجَّه ضد جهوده «غير المطلوبة»، فسوف أذكر أمثلة تدفعنا لخبط رؤوسنا فى الجدار، منها أن البصل اليمنى لا يزال يدخل إلى السعودية عبر الميناء البرى فوق جرارات شحن مكشوفة، ومُحملاً فى أجولة تتفق مع اسمه «بصل»، أما البصل المصرى فمطلوب من مصدِّريه أن يحافظوا على اسمه كـ«بصل» مع إكسابه مواصفات التفاح. لا يوجد طرد تصديرى يخرج من مصر إلا بالكشف عليه وإصدار شهادة تخصه برسوم مالية من هيئة سلامة الغذاء، على الرغم من إصدار شهادة فحص «الحجر الزراعى»، وشهادة صحية من المعمل المركزى لتحليل متبقيات المبيدات والعناصر الثقيلة فى الأغذية، و«الأول» هو الجهة الرسمية دولياً، المنوط بها هذا الاختصاص، ضماناً لـ«الصحة النباتية»، و«الثانى» هو المكمل لمنظومة «سلامة الغذاء»، وحاصل على المرجعيات الدولية المؤهلة لهذا الغرض.

- تترك الهيئة شغلها الرئيسى الخاص بتدقيق كل غذاء ناتج عن حاصلات زراعية، أو ثروة حيوانية، أو داجنة، أو سمكية، وحتى لو كانت أغذية مصنَّعة، لتتلقاها المحلات بأرففها، وثلاجاتها، ومخازنها، دون كشف من هذه الهيئة، كونها لا تضمن تحديد الجهة التى ستدفع رسوم العيّنات المسحوبة بغرض الفحص.

- يذهب المستهلك المصرى إلى أسواق الخضراوات والفواكه، واللحوم والأسماك، ليشترى حسب خبرته المتعلقة بالذائقة العامة، وباللون والرائحة والملمس، وهو لا يعلم إن كانت هذه المواد التى ستتحول فى بيته إلى أغذية خالية من المسببات المرضية أم لا، ومنها: متبقيات المبيدات، والسموم الفطرية، وغيرها.

- يصر رجال هيئة سلامة الغذاء على الوجود فى مفارش البصل والثوم، للكشف عن عدد العبوات وأوزانها، دون معرفة ما يحمله المحصول من الداخل، وذلك ليس إلا من باب «إثبات الوجود»، وتحصيل الرسوم القليلة جداً (2.5 جنيه للطن)، لتعظيم «غلة» الهيئة، التى وُلدت بلا ميزانيات، ولا درجات وظيفية، وهم لا يعرفون أن بعض المصدِّرين يضطرون لتجهيز شحنات أخرى تتوافق مع طلبات التجار السعوديين، بحيث يقل وزن العبوة 2 كجم، وبالتالى يعبأ الطن فى 1200 عبوة، بدلاً من 1000 عبوة، وتتم تغطية المخالفة بعدد من الأجولة ذات الوزن الصحيح على وجه الشحنة، ليكون نصيب الملتزم خسارة 20 ألف جنيه فى كل حاوية، ونصيب الثانى مكسباً لا يقل عن 40 ألف جنيه فى الحاوية المماثلة فى الوزن.

- مع تأكيد المصدرين أن هيئة سلامة الغذاء لا تقدم أى معروف فنى أو لوجيستى لقاطرة التصدير، يعترفون أيضاً بأن الدكتور حسين منصور، رئيس الهيئة، نجح فى أن يجعل رجاله مجندين لخدمة أهدافه، وليس لأهداف اقتصادية أو فنية، حيث لا يحصلون على رشاوى، ولا يعرفون مصطلح «الشاى»، لا سادة ولا بالنعناع، كما لا يحصلون على المقطوعيات المقننة التى يحصل عليها رجال الحجر الزراعى، بلا إيصال، ولا أى ورقة تثبت مرورهم الحجرى.

- الغريب أنه لا أحد من المصدِّرين يجرؤ على شكوى هيئة سلامة الغذاء، لعلمهم أن الإقدام على الشكوى يعنى القضاء على مستقبلهم ومستقبل شركاتهم، وإغلاق بيوت العمال المساكين الذين يُعدون بالآلاف، ومعظمهم من النساء المعيلات، (أرامل ومطلقات)، ليظل مصدِّرو البصل والثوم محكومين بالعمل فى ساحات مكشوفة، وبضاعتهم عرضة للأهوال الجوية، حيث لا يُسمح لهم بعمل حتى تاندات، أو مظلات تحميهم من الأمطار أو البرد والشرد، لتتحول سلعتهم التصديرية إلى سلعة رديئة، تكون من نصيب «المصريين الغلابة»، بعد أن هبطت درجتها إلى «غير صالح للتصدير».