الشقا من حظ "أم دنيا".. معاقة تمسح سلالم البيوت بذراع واحدة "تسوى 100 إيد"

كتب: كريم عثمان

الشقا من حظ "أم دنيا".. معاقة تمسح سلالم البيوت بذراع واحدة "تسوى 100 إيد"

الشقا من حظ "أم دنيا".. معاقة تمسح سلالم البيوت بذراع واحدة "تسوى 100 إيد"

عقارب الساعة تشير إلى الثامنة صباحًا، تفتح عينيها في ثقل، موعد استيقاظها اليومي قد حضر، لتستعد ليوم شاق كسابقه، ترتدي جلبابها الوحيد بصعوبة دون مساعدة من أحد، وتخرج من منزلها متجهة نحو منطقة حدائق القبة، لتعمل كخادمة في المنازل هناك، تنظف الشقق السكنية وتمسح السلالم، متحدية ظروفها التي ألمت بها منذ الصغر، وسط نظرة ذهول وإعجاب لم تتغير عبر الزمن ممن تعمل لديهم، عندما يقفون لمشاهدتها وهي تعمل بـ"إيد واحدة".

عايدة عبدالغفور عبدالحميد أو "أم دنيا" كما يناديها الزبائن، سيدة من ذوي الإعاقة، فقدت ذراعها اليسرى في سن 10 سنوات خلال حادث أليم لم يُمحى من ذاكرتها حتى الآن، "كنت عيلة صغيرة بالعب على الجرارفي بلدنا، وأنا بنط من فوقه مع العيال وقعت تحت العجل وفرم دراعي، من ساعتها حياتي اتحولت لمأساة، وبقيت مميزة والكل بيبص عليا ويقول أم دراع أهي".

"أم دنيا" تعصر "الخيشة" بيدها وقدمها.. وتتلمس الشفقة فيمن تعمل لديهم

50 عاما، هو عمر "أم دنيا"، عاشت خلالها حياة مليئة بالأسى، اكتظت بالعمل في مهنة لا تشبه إمكاناتها، تتلمس الشفقة فيمن تعمل لديهم، منهم من يعطيها أجرا زيادة عما تعمل به، ومنهم من يبخسها حقها دون مراعاة لظروفها، أما هي فلا تكل ولا تمل عن العمل، تُنهي عملها في منزل لتبدأه في آخر، وتستمر هكذا حتى يحل الليل، لتعود بيتها ومعها ما يكفي بالكاد قوت يومها ومصاريف ابنتيها.

قطعة كبيرة من القماش، تضعها في وعاء مليء بالمياه الممزوجة بالمنظفات، ترفع قدمها اليسرى على الوعاء وتمسك "الخيشة" بيدها اليمنى لتضعها تحت قدمها وتبدأ في عصرها من أجل مسح سلم أحد البيوت، ثم معاودة الكرّة من جديد لاستكمال مهمتها.. ذلك هو المشهد اليومي الذي تقوم به "أم دنيا"، ويقف أمامه سكان البيوت في صمت، وعيونها ثابتة كالزجاج تتابع نشاط السيدة الكبيرة عن كثب، ويتعجبون من إتقانها لمهامها بذراع واحدة.

السكان يشهدون لـ"عايدة" بالأمانة: عندها عزة نفس ومابتاخدش فلوس من غير شغل 

أمانة ونظافة وأخلاق حميدة، يشهد بها أهل منطقة حدائق القبة للسيدة الخمسينية، التي تعمل على مساعدتهم طوال السنوات الماضية مقابل أموال بسيطة، وفقًا لحديث "أم ياسر" أحد سكان المنطقة، "بتشتغل أحسن من أي واحدة عندها دراعين وعمري ما حسيت بإعاقتها، وباجيبها عندي عشان تساعدني وفي نفس الوقت مساعدة ليها هي كمان، لو ماجبتهاش أنا وغيري مش هتلاقي شغل، وهي بصراحة عندها عزة نفس، ومابتقبلش مساعدة من غير شغل".

أسرة "أم دنيا" مكونة من 4 أفراد أب وأم وابنتين، قبل أن تتقلص لـ3 فقط بعد فقدان الزوج في العام الماضي، متأثرًا بورم خبيث، بعد فشل محاولات الزوجة في علاجه، "استلفت من طوب الأرض عشان أعمله جلسات العلاج وبقى عليا ديون كتير، بس قدر ربنا إنه يسيبني أنا وبناتي لوحدنا، ورفضت الجواز بعده وقلت بناتي عندي بالدنيا".

أم دنيا: رفضت الجواز بعد وفاة جوزي.. وطلعت بناتي عينهم مليانة

منذ صغر ابنتي "عايدة" دنيا وسمر، عكفت على تعليمهما وتربيتهما بطريقة سليمة حتى حصلتا على شهادات متوسطة، رافضة بتاتا أن تعمل إحداهما معها، حتى عقب الألم الذي ألمَّ بظهرها في السنوات الأخيرة، "بناتي كانوا بيقولوا لي هنيجي معاكي الشغل أو نروح مكانك وانتي ريحي، بس برفض وبقول لهم إنتو زيكم زي بنات كل الناس تتستتوا في بيوتكم وتتعلموا، ولحد ما جوزت الاتنين عمري ما خليت واحدة فيهم مسحت سلم لحد، وطلعتهم عينهم مليانة".

تعيش "ذات الذراع الواحد" بمفردها بعد زواج ابنتيها ووفاة زوجها، في منزل متواضع، أكلت الرطوبة من حوائطه ونال الزمن من أثاثه، بداخله مطبخ صغير عليه أكياس معقودة بها حبوب غذائية بكميات قليلة تكفي لفرد واحد، تشتريها من الرزق اليومي الذي تحصل عليه من عملها، والذي عادة ما يكون أقل من 50 جنيها، لتطهو تلك الحبوب بحرفية شديدة وبيد واحدة، ثم ترتب ذلك البيت وتنظفه قبل أن تخلد للنوم.

كورونا أثر على رزق "أم دنيا": نفسي ألاقي شغلانة تريحني اللي باقي من عمري

انتشار فيروس كورونا، حدّ كثيرًا من عمل "أم دنيا" داخل البيوت، بعدما أصاب الناس هاجس الإصابة بالوباء، ما جعلها تعاني من قلة المال طوال الفترة الماضية، "ماستحملتش قعدة البيت من غير شغل، وكان بييجي عليا أيام مابلاقيش اللقمة آكلها بس ولاد الحلال كانوا بيساعدوني".

تعاني ابنة شبرا مصر من انزلاق في الفقرة الرابعة والخامسة في الظهر، ورغم ذلك ليس لديها رفاهية الراحة في المنزل، حتى تجد لقيمات تحيا بها، "أنا بطبخ وبمسح وبالبس وباعمل كل حاجة بإيد واحدة، زي أجدع ست، بس تعبت ومابقتش قادرة أستحمل، نفسي في شغلانة تحميني من شقى الشغل في البيوت، وتعيشني مرتاحة في الكام سنة اللي باقيين من عمري".


مواضيع متعلقة