الرسوم المسيئة.. الإسلام «مأزوم» والغرب أيضاً
صح ما قاله الرئيس الفرنسى ماكرون من أن الإسلام «مأزوم»، لكنه لم يُكمل جملته بأن الغرب أيضاً «مأزوم»، وما عايشه العالم -وليس فرنسا فقط- فى الأيام الأخيرة، يعكس أزمة حقيقية تمر بها البشرية، لكن الغرب بتعاليه يرفض الاعتراف بنصيبه من الأزمة.
المسألة ليست فى رسم كاريكاتيرى، ولا فى سكاكين إرهابيين نحرت رقاباً بريئة، وإنما هى أعمق من ذلك بكثير، ولا تقف خطورتها عند حدود «نيس» أو «باريس»، لكنها تمتد لأبعد من ذلك بكثير، وتعبُر المحيطات، لُتشعل ناراً لا يعرف أحد مداها.
نحن أمام حضارتين، إحداهما تعكس إيماناً عميقاً بالعلمانية لا يعرف حدود العقائد الدينية، والثانية تؤمن بحرية الاعتقاد، لكنها تحيطه باحترام العقائد الدينية، الحضارة الأولى لا تعرف حدوداً لحريات الرأى والتعبير والعقيدة، ولا يؤمن أبناؤها بأن العقيدة الدينية حاجز، سواء مع الأديان الأخرى أو حتى مع أتباع دينه، بينما الثانية تعتقد أن السخرية من العقائد إساءة للأديان والرموز والمعتقدات الدينية، حتى لو كانت فى غير خصوص معتقداتها.
فى الغرب لا يعتقدون فى جرائم ازدراء الأديان، ولا يعتقدون فيما نسميه الإساءة إلى الرموز الدينية المقدسة، وهم يعتبرون هذه المفاهيم جزءاً أساسياً من حريات الرأى والاعتقاد، على خلفية حق أى مواطن فى إبداء رأيه ما دام لا يحرض على كراهية الآخر أو معتقداته، وهم لا يعتبرون تلك الرسوم مسيئة، ولا يعتبرونها وسيلة للتحريض على الكراهية، وإنما مجرد رأى.
المعضلة الحقيقية التى تدور حولها الاتهامات المتبادلة، تتعلق بحريات الفكر والتعبير والاعتقاد، وهى منطقة بالغة التعقيد، كون أحد الطرفين يرفض أى قيود تحد من هذه الحريات، والثانى يرى أن هذه التجاوزات تمثل تحريضاً مباشراً على الكراهية لدينه ومعتقداته ورموزه الدينية، وهو ما يرفض الغرب الاعتراف به، ويسعى لتكريس مفهومه ومبادئه على الآخرين.
فى أزمة مثل ارتداء الحجاب أو النقاب مثلاً، أنت لا تستطيع انتقاد إجراءات أو تدابير تقررها السلطات المحلية فى بلد ما، تتوافق وتتناسب مع مبادئها ومعتقداتها وأسسها الفكرية، لكنك لا تستطيع أيضاً أن تقبل بمنطق فرض هذه المعتقدات أو المبادئ على الآخرين فى مجتمعاتهم وحدود بلدانهم.
وفى أزمة مثل تلك المتعلقة بالرسوم المسيئة، أنت تملك الحق فى التعبير عن رأيك فيما يخص معتقداتك الدينية، لكنك لا تملك ذات الحق فيما يخص معتقدات وأديان الآخرين، ولا أدرى ما الصلة بين تربية النشء على مفاهيم الحرية والاعتقاد، وبين الرموز الدينية على وجه الخصوص، ولو كان الأمر يتعلق بتكريس مبادئ العلمانية، فهناك أهداف عدة ليس من بينها استباحة الآخر ومعتقداته.
الغرب يعانى مشكلة حقيقية، وهو يربط بين الإرهاب والإسلام، ويُنكر مئات الوقائع التى واجهها فى إرهاب جماعات وفرق عنصرية ودينية أخرى، فى مختلف بلدان العالم، فى الوقت الذى تسعى الآلة الإعلامية الغربية، لإلصاق فكرة الإرهاب بالإسلام ورموزه، وهى مسألة تثير تساؤلات عن تأثير جماعات وفرق اليمين المتطرف، ونفوذها فى وسائل الإعلام أو فى دوائر القرار، أو ربما فى سياسات محددة سلفاً يجرى تنفيذها، كما أن تكرار موضوع الرسوم يشير إلى منهج فى الغرب لتربية النشء على الصلة بين الإرهاب وبين الإسلام ورموزه، وهى مسألة بالغة الخطورة، حتى على مفاهيم ومبادئ حريات الرأى والفكر والتعبير، لأنها تصم أهل ديانة بما يُحاصرها ويجعلها فى دائرة الاتهام والكراهية من الآخرين.
ثقافة كل مجتمع تجرى صياغتها فى سياق تاريخى ومجتمعى، وتختلف الشعوب وفقاً لاختلاف هذه السياقات، ولذلك يبدو أن فكرة المبادئ الواحدة الحاكمة للبشرية ستصبح فى القريب العاجل فكرة عبثية بائسة، كما أن محاولات صياغة إطار واحد يجمع البشر تحت مظلته مسألة مطعون عليها، كون الإصرار الدائم على تفسير واحد يمنح الحق لطرف على حساب آخر.
صحيح أنه لا يُمكن قبول أو تفسير أو تبرير كل أنواع وأشكال الإرهاب، بل إن البحث عن مبررات لفعل إرهابى يندرج بحد ذاته تحت مفاهيم دعم الإرهاب ومساندة الإرهابيين وأفكارهم، لكن أيضاً يجب النظر لحدود حريات التعبير، بما لا يمتد للإساءة إلى الآخر، والتحريض ضده، أو إثارة الكراهية تجاهه، ويجب اعتبار هذه الإساءات بمثابة تطرف فكرى يؤسس بشكل أو آخر لبيئة مُحرضة على الكراهية والعنف والإرهاب تجاه الآخر، وهذه المعانى نشاهدها ونعايشها فى أعمال إرهابية عدة ضد المسلمين فى مجتمعات غربية من جماعات متطرفة، كانت بيئة الإساءة والسخرية مناخاً ملائماً لتشكيلها.
واحد من جوانب التطورات الأخيرة، يتعلق بصدق الأحاديث عن حريات الفكر والرأى والتعبير، ومدى الاحتياج إلى صياغات واضحة حول حدود هذه المبادئ، وظنى أن تلك المبادئ الإنسانية الرائعة، قد باتت على المحك، بعد أن تباينت المفاهيم وتباعدت بمساحات كبيرة، ولم تعد تلك المبادئ تعبيراً عن مشاعر أو احتراماً لكرامة البشر، بقدر ما تحولت إلى وسائل للإساءة للآخر، والتحريض وإثارة الكراهية ضده.
التطرف يحاصر البشرية، وهناك ممارسات تسهم بقدر كبير فى صناعة بيئة ملائمة لصراع دينى، وإطلاق الحقوق على مداها دون ضوابط ومعايير سيثير صراعاً بين حضارات، للأسف تؤشر التطورات على تنافرها بديلاً عن توافقها، والحوار هو السبيل الوحيد لمحاصرة التطرف، لكنه الحوار القائم على الاعتراف بحقوق الآخر، واعتبار المساس بأديان الغير جريمة تخرج عن نطاق الحقوق البشرية، فالمسألة ليست فى إطلاق الاتهامات على الجميع، وإنما فى اتهام المجرمين الإرهابيين دون تعميم للاتهام على الدين نفسه.
الجماعات المتطرفة تنتظر بلهفة نتائج وتداعيات الأحداث، وهى تنظر للأمور من زاوية تأجيج الأزمة، فأجواء الصراعات بيئة ملائمة لهذه التنظيمات والجماعات من كل جانب.