عبدالناصر على الجبهة.. محارب "مصاب" في فلسطين وكاسر لكبرياء العدو

كتب: ماريان سعيد

عبدالناصر على الجبهة.. محارب "مصاب" في فلسطين وكاسر لكبرياء العدو

عبدالناصر على الجبهة.. محارب "مصاب" في فلسطين وكاسر لكبرياء العدو

زعيم غير عادي، هو الضابط الذي ارتدى البطولة، والرئيس المحاط بالكبرياء، وفي الذكرى الـ50 لرحيل جمال عبدالناصر، يبقي الضابط "جمال" المقاتل، الذي حمل السلاح وقاد جيشه دفاعا عن العروبة شرف جيشه وبلاده، فقاد كتيبة المشاة السادسة، وأمن منطقة الفلوجة شمال شرق غزة، عائدا إلى بلده بكبرياء جندى مصري لا يعرف الاستسلام.

كانت المعركة الأولى لعبدالناصر في فلسطين خلال الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948، حيث بدأ مسيرته مقاتلا في مايو، حين أرسل الملك فاروق الجيش المصري إلى فلسطين، وكان ناصر في كتيبة المشاة السادسة، التي لم ينساها فأرخ كل ما مر به في مذكراته التي نشرتها مجلة آخر ساعة في مارس وأبريل لعام 1955، التي بدأت بقوله "لست أريد أن أرفع معنويات الجيش بعد حوادث غزة الأخيرة.. أريد أن أقول الحقيقة التى عشتها". 

مذكرات على الجبهة

صفحات طويلة كتبها عبدالناصر عن حرب فلسطين، حكي فيها عن لحظات أرخت للأمة العربية كافة، بداية من "الكتيبة السادسة - وجوها" ودفعها مع الكتيبة الأولى مشاة في الساعة السادسة من صباح السبت 15 مايو 1948 للهجوم على مستعمرتي "الدنجور" جنوبي غرب رفح، و"كفار داروم"، اللتين تسيطران على محور المواصلات الرئيسي إلى غزة.

وكتب عبدالناصر في مذكراته: "لم يكن هناك وقت لكى تستكشف الكتيبة غرضها الذى سوف تهاجمه.. وكان هناك دليل عربى واحد نيطت به مهمة قيادة الكتيبة الى موقع مستعمرة الدنجور، ولم يكن هذا الدليل يعلم شيئا عن تحصيناتها ودفاعها.. حتى ظهرت أمامها فجأة تحصينات الدنجور.. ولم يسترح الجنود بعد الرحلة الشاقة ، وانما اندفعوا الى الأسلاك". 

ولم يكن هناك من يعرف ما الذى يجب عمله على وجه التحديد، ولكن المدافعين عن الدنجور كانوا يعرفون.. وأصيبت الكتيبة بخسائر لم تكن متوقعة، وعند الظهر أصدر القائد أمره بالابتعاد عنها، وعادت الكتيبة الى رفح ؛ لتجد بلاغا رسميا أذيع فى القاهرة يقول: إنها أتمت عملية تطهير الدنجور بنجاح.

يستكمل عبدالناصر، أنه بعد ذلك "وبدأ كأركان حرب للكتيبة السادسة يشعر بالحيرة والعجز اللذين كانا يحكمان قيادتنا العليا أكثر من غيرى، وكانت مئات العوامل تتنازعنى، ولم أكن أعرف الوسيلة التى أعبر بها عما أحس.. وأعترف أنى سمعت من أحد الجنود تعبيرا واضحا عن حالتنا .. قاله الجندى بلغته الساذجة الدارجة، ولم يكن يعرف أننى أسمعه، ولا كان يعرف أن عبارته الساذجة الدارجة كانت وصفا صادقا لما كنا فيه".

وجاءت الأوامر الى الكتيبة بأن تهد معسكرها الذى تقيم فيه، وتنقل الى مكان آخر يبعد عنه ثلاثة كيلو مترات، ولم أستطع أن أتصور الغرض من هذا التحرك، ولكن الكارثة الكبرى أن الذين أصدروا أمرهم به، لم يكونوا يعرفون له غرضا هم الآخرون وكان الدليل أنه بعد ثلاث ساعات من هذا الأمر، وبينما نحن نقيم المعسكر الجديد، جاءتنا أوامر جديدة بالتحرك الى المحطة وركوب القطار المتجه الى غزة.

إصابة عبدالناصر في "نجبا" ونجاة بأعجوبة

وفي يوم 12 يوليو عام 1948 حاولت قوات الجيش المصرى استعادة مستعمرة "نجبا"، وكتب عبدالناصر "بدأت معركة نجبا، وكانت السرية فى مواقعها رابضة فى غير حاجة الى ، وقررت أن أعود الى المعركة". 

والتقيت عند نهاية الطريق المكشوف بأركان حرب اللواء، وكان قادما ليستطلع الموقف، ودهش أركان حرب اللواء؛ فلم يكن يتصور أن الطريق الى مركز تقاطع الطرق مكشوفا إلى هذا الحد، ولم يكن هناك مفر من أن يركب حمالة مصفحة، اذا أراد أن يعبر الطريق فى وضح النهار، وعدت معه فى الحمالة المصفحة، وقررنا العودة بعد قليل، ثم وقعت حادثة من تلك الحوادث التى يتفنن القدر فى حبك مواقفها.

وهي المعركة التي انتهت بالهزيمة وقتها، ليتحول الهجوم بعدها إلى كارثة على القوات الموجودة هناك، وأصيب عبدالناصر في هذه المعركة برصاصة كادت تودي بحياته، وحينها سأل نفسه: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الأمر جرى على العكس.. لو أن الرصاصة حينما اصطدمت بالجدار المصفح للحمالة وانفصلت، كان الغلاف هو الذى طاش، وكانت الرصاصة نفسها هى التى اتجهت الى صدرى؟.       

حين سألت نفسى هذا السؤال، وجدت روحى كلها أقرب ما تكون الى الله وأنا أغمغم فى سرى: الحمد لله.

وبحلول شهر أغسطس، كان مع فرقته محاصرين من قبل الجيش الإسرائيلي، ورفضت الفرقة الاستسلام، وفي صباح يوم الخميس 21 أكتوبر، تم دعوة قادة الكتائب المحاصرة ورؤساء الأركان إلى مؤتمر في الفالوجا.

وكانت هذه الكتائب ثلاثا هي: الكتيبة الأولى، والكتيبة الثانية، والكتيبة السادسة، ورأس المؤتمر الأمير الاى السيد طه، قائد الكتيبة الأولى وقال وفقا لما ذكره ناصر في كتابه إنه "تلقى من رئاسة القوات أمرا إنذاريا بالاستعداد للانسحاب، على أن يرتب أمره لبدء الانسحاب في الساعة السادسة والنصف، بعد أن يتلقى أمرا تأكيديا بالبدء فيه.

الكبرياء والعنجهية

وفي مذكرات عبدالناصر تحدث عن الكبرياء والعنجهية، بعد حديثه عن مراحل مختلفة في الحرب انتهت بإسقاط كبرياء الجندى الإسرائيلي، فيحكي عن محاولة تفاوض الجانب الإسرائيلي مع الجهة الأخرى، حيث أرسل سيارة مدرعة ترفع الراية البيضاء وتصرخ بالقول "ضابط إسرائيلي يريد مقابلة ضابط مصري" وهنا خرج ناصر للتفاوض، لكن خان العدو ووصلت مدرعات ودبابات ليصبح الموقف آنذاك حصار كامل، ونار لا تهدأ، ودبابات وطيارات.

وبدأ أحد ضباط الإسرائيليين حديثه بالإنجليزية، قائلا: "أنا المساعد الشخصي للقائد العام لهذا القطاع، وأنا مكلف بأن أشرح لكم موقفكم إنكم محاصرون من كل ناحية، ونحن نطلب اليكم التسليم". رد عليه ناصر في هدوء قائلا: "أما الموقف فنحن نعرفه جيدا، ولكن الاستسلام لن يحدث، نحن هنا ندافع عن شرف جيشنا".

"بدأ الضابط الإسرائيلي يتكلم بالعبرية وأحد مرافقيه يترجم، ثم عاد يتكلم بالإنجليزية ثم فجأة بدأ يتكلم العربية وهو يشرح لنا الموقف حولنا، ثم قال عن رفضهم الاستسلام ألا ترجع إلى قائدك تسأله؟"، وكان الرد: "هذا موضوع ليس فيه مجال للسؤال".

وبعدها أحس عبدالناصر، أن كبرياء الضباط الإسرائيليين قد سقط، حيث قال أحدهم في صوت مؤدب: "لنا طلب إنساني عندكم، نريد أن نسحب قتلانا عندكم من المعركة السابقة، أنت تعرف أن أهل القتلى يحبون الاحتفال بدفن أبنائهم، فهل تمانعون؟" وهذا ما وافق عليه جمال.

ليختتم جمال مذاكرته عن تل الفترة قائلا: "وحين عدنا الى مواقعنا مرة أخرى عبر الطريق، كانت سيارة الجيب الصغيرة التى كنا فيها تضج بالضحك والمرح.. كنا نقارن بين بداية المقابلة ونهايتها.. العنجهية والكبرياء عند طلب التسليم، والأدب والحياء عند طلب جثث القتلى!".

 


مواضيع متعلقة