حريق "قطر الصعيد" ليلة العيد.. نيران الرعب مازالت مشتعلة في قلوب الناجين بعد 18 سنة

كتب: عبدالله مجدي

حريق "قطر الصعيد" ليلة العيد.. نيران الرعب مازالت مشتعلة في قلوب الناجين بعد 18 سنة

حريق "قطر الصعيد" ليلة العيد.. نيران الرعب مازالت مشتعلة في قلوب الناجين بعد 18 سنة

ظلام دامس وصمت شديد يحيطان بالمكان، إلا من صوت دقات عجل القطار وصافرته، وبصيص ضوء صغير صادر من أعمدة الإنارة المتهالكة على جانبي الطريق، هدوء لم يقطعه إلا أصوات الصارخين من القطار، نيران الإهمال المشتعلة به تخرق الظلام، في دقائق معدودة تحولت عربات القطار إلى جمر من نار، وأصبحت الأجساد المحملة بالبهجة والفرحة لسفرها لمبتغاها، أكوام من الجثث المتفحمة، مشهد عمره 30 عامًا شهده قطار العياط "الصعيد" ليلة عيد الأضحي عام 2002.

عربات القطار اكتست بلون الدخان المشتعل، رائحة الأجسام المحترقة في كل مكان، أمتعة وملابس جديدة ينتظرها أصحابها تحولت إلى رماد، أحلام وفرحة واحتفالات تحولت كلها مأساة، لا تنساها مصر لتصبح الكارثة الأسوأ في تاريخ السكك الحديدية المصرية، التي راح ضحيتها 361 قتيلًا قبل 18 عامًا.

في الساعة الواحدة صباحًا من يوم 20 فبراير لعام 2002، اندلعت النيران في إحدى عربات القطار رقم 832 المتوجه من القاهرة إلى أسوان، عقب مغادرته مدينة العياط، في سرعة البرق، امتدت النيران من عربة إلى أخرى، تأكل كل ما تواجه من أرواح وأمتعة وحتى العربات نفسها.

مأساة تركت آثارها في عقل محمد فكري أحد ركاب القطار المشؤوم، والتي لم يستطع الزمن محوها من ذاكرته، يحكي لـ"الوطن"، خلال وقوفه على أحد أبواب القطار عائدًا إلى قريته في محافظة المنيا، ينتفض قلبه فرحًا، فلتوه علم بنجاح مكتب العمل في القاهرة من توفير فرصة عمل له في الكويت براتب أكبر من توقعاته، وكان في طريقة للعودة بعد أن أنهى بعد الإجراءات، ليقضي العيد بين أصدقائه وأسرته.

ألسنة لهب تظهر في آخر عربة بالقطار، يجري القطار بسرعته المعتادة وتلاحق النيران عرباته واحدة تلو الأخرى، أصوات الصراخ تتعالى من العربات الخلفية المشتعلة، الخوف تمكّن من قلوب العربات الأخرى، "فضلنا نصرخ ونخبط على حوائط وأرضية عشان أي حد يلحقنا"، ولكن دون استجابة ليتملك الخوف والقلق من الركاب.

الكل يحاول البحث عن النجاة، ومنهم من قرر القفز من القطار خلال سيره، "شفت ناس النار مولعة فيهم بيحاولو يهربوا من الموت"، دقائق قليلة وتوقف القطار، الكل يخرج من القطار مسرعا، يحاول النجاة بحياته، ينظرون إلى القطار الذي اشتعلت عرباته لتضيء السماء كشمس الظهيرة، ليغادر جميع الركاب خوفًا من انفجار القطار.

أصوات سيارات الإسعاف وصلت إلى مسامع أحمد عبدالمنصف، ورائحة الدخان الكثيف المختلط بالأجساد المحترقة استشعارها حوله في الأجواء، ليتقصي عن أنباء ما حدث، ليعلم بتواجد قطار مشتعل بالقرب من مسقط رأسه "العياط"، لينطلق إلى هناك مسرعًا محاولًا تقديم المساعدة للمتواجدين.

"عبدالمنصف" يعد الشاهد الأهم في حادث القطار، إذ قضى ما يقرب من 15 ساعة في مهمة إنسانية رفقة الموتى في رحلتهم الأخيرة، مأساة تركت ويلاتها في نفسه وعقله، يسردها لـ"الوطن"، بعد 18 عامًا من وقوعها والمشاهد وتفاصيل ما بعد نشوب النيران في القطار كأنَّها وقعت بالأمس.

أحد الشهود: شوفت أب "متفحم" حاضن ابنه.. وواحد النار "مولعة فيه"

مع دقات الساعة الثانية صباحًا، توجه "عبدالمنصف"، للحديث مع سائقي سيارات الإسعاف، لمعرفة ما حدث، إذ كانت السيارة تسلم جثتين إلى المستشفى العام، "سألته هما دول بس اللي راحوا في الحريق؟! قالي دول بس إيه؟ دا هناك ناس ياما"، لينطلق صوب القطار عند منطقة البرغوثي بالعياط ، ويجد أن النار التهمت 7 عربات دفعة واحدة.

في حوالي الساعة الثالثة صباحًا وصل "عبدالمنصف" إلى مقر القطار المتفحم، بدأ طقوسه المعتادة خلال مساعدته للموتى، قرأ المعوذتين، ثم بسمل وحوقل ثلاثًا، "لفيت على القطار سريعًا، لقيت كل الجثث متفحمه، الروح خرجت من كل الأجساد، كلهم أكوام فوق بعض من الواضح أن القطر كان متروس بني آدمين".

داخل القطار وقف "عبدالمنصف"، يمد يده وحيدًا لإخراج الجثث إلى رجال الإسعاف، تدمع عيناه وهو ينتشل الجالسين على مقاعدهم أو المحشورين في أرفف الحقائب، يفصل أجسادهم عن بعضها البعض، "في أجسام كنت بشيلها يقع منها أشلائها، فيه اللي كان بيقع منه ذراع أو رأس".

أعوام طويلة مرت، وتفاصيل الحادث عالقة بذهن الرجل الأربعيني، فيتذكر ذلك الأب المتفحم الذي كان يحتضن نجله، والسيدة المتشبثة بحقيتها، وآخر يحاول النجاة فالتهمته النيران وهو معلق داخل النافذة، فالتهمت النار الجميع الشاب اليافع والكهل والرضيع، الكل أمام النار سواسية.

ساعات طويلة قضاها منفردًا في جمع الأشلاء، قبل أن يقدم أحد المسعفين على مساعدته، "مستحملش يقعد في القطار دقائق، خرج بسرعة من صعوبة المشهد"، ليكمل "عبدالمنصف" ما بدأه وحيدًا، "بعد أما خرجت الجثث، جمعت الأشلاء في شوال، لحد ما اكتشفت في النهاية إنّي جمعت أكثر من 100 شوال أشلاء ضحايا"، لينهي مهمته في اليوم التالي الساعة 5 مساء.

تلك المشاهد من قسوتها تسببت في آلام نفسية لـ"عبدالمنصف"، ظلت مشاهد الضحايا تراوده في أحلامه، "كنت كل يوم بقوم مفزوع من نومي، وكنت بتكلم بأصوات استغاثتهم"، ليقرر التوجه لأحد الأطباء النفسيين الذي طلب منه الانتظام على أحد الأدوية المهدة للأعصاب، وظل مستمرًا عليه لعدة أشهر.

لم تتوقف مهمته تجاه الضحايا عند هذا الحدث، فزارهم في مقابرهم الجماعية في منطقة السيدة نفيسة، "أوقات بحس إني محتاج أزورهم وبروح لهم كل ما بحس إنهم محتاجين زيارتي ليهم".

ليلة عيد الأضحى من كل عام، ينسى "عبد المنصف" استعدادات العيد واحتفاليته ولا يبقى في ذهنه سوى المشاهد المأساوية للضحايا، داعيًا الله لهم أن يكونوا في مكان أفضل وأن يلحقه بهم في الآخرة.


مواضيع متعلقة