د. أحمد صقر عاشور يكتب: استراتيجية علاج التعليم

د. أحمد صقر عاشور يكتب: استراتيجية علاج التعليم
تناولنا فى مقالة سابقة فى «الوطن» (المنظومة التعليمية تعانى قصوراً بالغاً) تحليلاً لأهمية حماية رأس المال الإنسانى من مخاطر الفساد الذى يصيب التعليم. وبينا التوابع الخطيرة للفساد فى التعليم على التنمية وعلى القيم والثقافة المجتمعية. وأوردنا ظواهر وأنماط الفساد الشائعة فى قطاع التعليم ومؤسساته، سواء فى البلاد النامية ومنها مصر، وتلك الظواهر والأنماط التى تختص بها مصر. ونتناول فى هذا المقال تحليل وتشخيص أسباب وعوامل الفساد، وأهم الاستراتيجيات والآليات المقترحة لعلاجه والتصدى له، بالوقاية منه ومنعه، وكذلك بمكافحته وملاحقته وردعه.
أسباب وعوامل الفساد فى قطاع التعليم
يمكن إجمال هذه الأسباب فى ضعف منظومة حوكمة التعليم فى كل مراحله، أى ضعف النظم والممارسات المؤسسية فى المدارس والجامعات والمعاهد العليا، من حيث الشفافية وضوابط ومعايير وتوزيع وتوازن السلطات والمساءلة التى تقابلها عن الأداء والممارسات، وضمنها ضعف عوامل النزاهة وموانع الفساد والوقاية منه وردعه وآليات كشفه وملاحقته ومكافحته. وفيما يلى إيضاح لهذه الأسباب:
- لا تأخذ مشكلة الفساد وضعف نزاهة الممارسات التعليمية، رغم تغلغلها وانتشارها، الاهتمام الواجب ضمن جهود إصلاح منظومة التعليم فى كل مراحله، ويتم التركيز فى جوانب الإصلاح على جوانب غير استراتيجية فى المناهج وعلى تقنيات التعليم. هذا رغم أن المناهج ومضامينها وعلاقة هذه المضامين باحتياجات التنمية لا تلقى الاهتمام الواجب. والمشكلة الأكبر هنا أن المناهج لا تتضمن ترسيخ قيم يحتاجها المجتمع، مثل قيم المواطنة وقيم العمل والأخلاقيات القويمة. ولا تتضمن المهارات الوجدانية للتعامل الاجتماعى.
ضعف منظومة حوكمة التعليم فى كل مراحله أبرز أسباب الفساد فى قطاع التعليم
- غياب المساءلة عن الأداء والممارسات التعليمية، وصورية نظم تقييم الأداء والممارسات فى هذا المجال. ولا تتضمن نظم تقييم أداء العاملين فى المهن التعليمية فى كل مراحله، أى معايير للمساءلة عن السلوكيات القويمة الملتزمة أخلاقياً للمعلمين. ومن الطبيعى فى ظل غياب هذه المعايير وفى ظل وجود فجوات فى المساءلة عنها، أن تنتشر سلوكيات الفساد فى هذه الجوانب. فما لا يتم قياسه والمساءلة عنه فى أى نظام مؤسسى، لا ينتظر أن يلقى اهتمام العاملين ولا ينتظر تطوره أو تحسين الممارسات فيه.
هناك ضعف فى إعداد المعلمين وغياب شبه كامل للرقابة والشفافية والمساءلة الفعالة فى تأهيل الكوادر
- هناك ضعف فى عمليات وآليات إعداد المعلمين، فضلاً عن غياب شبه كامل للرقابة والشفافية والمساءلة الفعالة فى عمليات إعداد وتأهيل الكوادر العاملة فى قطاع التعليم العالى خاصة، سواء من خلال البعثات أو من خلال آليات التهجين الذاتى. وفى ظل نظم التهجين الذاتى، ينخرط المعيدون والمدرسون المساعدون خلال مراحل إعدادهم، فى الدروس الخصوصية، ويتفننون فى وسائل الترويج لها من عمل ملخصات والتنبؤ بأسئلة الامتحانات وتدريب الطلاب عليها، وغير ذلك من الوسائل. وخلال هذه المرحلة تضعف بطبيعة الحال قيم النزاهة لديهم، وتنمو نزعات تكبير الدخل من خلال هذه الوسائل غير المشروعة قانوناً وأخلاقاً. وعندما يتحول هؤلاء إلى أعضاء هيئة تدريس، سيبحثون بطبيعة الحال عن وسائل جديدة لتنمية الدخل، فيلجأون إلى وسائل جديدة تناسب وضعيتهم الوظيفية لتنمية الدخل، مثل الكتب والتمرينات والأدلة وغيرها من وسائل التربح من الوظيفة الأكاديمية. كذلك فإن ازدواج هوية أفراد الدراسات العليا فى نظام التهجين الذاتى باعتبارهم موظفين أكاديميين وفى نفس الوقت طلاباً، يخلق وضعاً يؤدى فى كثير من الحالات إلى التعاطف وتخفيف المعايير تجاه ذوى الأداء المتوسط أو الضعيف منهم، لئلا يفقدوا أو يضار وضعهم ومسارهم الوظيفى. كذلك هناك غياب كامل للمساءلة عن جودة الممارسات وكفاءتها ونزاهتها فى كل مراحل التعليم. ومثال هذا الغياب الكامل للمساءلة أو أى صورة من صور الرقابة الفعلية على مضامين ومحتوى المقررات التعليمية والممارسات المرتبطة بها فى مؤسسات التعليم العالى فى كل مراحله.
- إسقاط الدور التربوى للمؤسسات التعليمية، خاصة دورها فى تنمية الجوانب الوجدانية والأخلاقية. بل إن الممارسات التعليمية تعمل على إضعاف هذه الجوانب بما تحمله من نزعات وممارسات تربح وفساد. وفى المدارس تكاد الأنشطة الفنية وتنمية الهوايات والأنشطة الاجتماعية تكون مختفية. ولا تتضمن الأنشطة التعليمية فى كل مراحل التعليم أى جهود لتنمية الجوانب الأخلاقية.
لا توجد ضوابط تمنع توريث المهن الأكاديمية أو شغل وظائف للأقرباء من الدرجة الأولى إلى الثالثة.. وضعف الرواتب أهم أسباب سعى العاملين فى مهن التعليم لتحسين دخولهم باستخدام مواقعهم وسلطاتهم الوظيفية فى التربح
- ضعف منظومة إعداد وتأهيل واختيار وإدارة المسار الوظيفى للمعلمين فى المدارس وأعضاء هيئات التدريس فى مؤسسات التعليم العالى. فمثلاً لا تقوم كليات ومعاهد إعداد وتأهيل المعلمين بدور فعال فى اختيار وتأهيل الكوادر التى تتخرج فيها. بل إن مهنة التدريس فى هذا المستوى التعليمى لا يقبل عليها إلا من لا يجد مجالاً وظيفياً تخصصياً ومهنياً آخر أفضل نتاجاً لأوضاع البطالة فى سوق العمل. وتضطر المدارس إلى قبول أفراد غير مؤهلين فى فنيات العمل التدريسى والتربوى خاصة فى مراحله الأدنى، والاكتفاء بمؤهلاتهم العادية. ولا توجد ضوابط تمنع من توريث المهن الأكاديمية والسلوكيات غير القويمة التى تتضمنها. كذلك لا توجد ضوابط تمنع شغل وظائف فى المؤسسات التعليمية يكون فيها أقرباء من الدرجة الأولى إلى الثالثة.
- ضعف رواتب وحوافز الأداء القويم (الكفاءة والجودة والنزاهة) للمعلمين، وأعضاء الهيئة الأكاديمية فى مؤسسات التعليم العالى. ويمثل ضعف الرواتب أحد أهم الأسباب فى سعى العاملين فى مهن التعليم لتحسين دخولهم باللجوء إلى أساليب متنوعة لاستخدام مواقعهم وسلطاتهم الوظيفية فى التربح. وهو أيضاً السبب الرئيسى لهجرة الكوادر العلمية والتعليمية والتحايل لمد فترات الإعارة للخارج، ناهيك عن النسبة الجوهرية لعدم عودة المبعوثين للدراسات العليا فى الخارج، خاصة الدول الغربية. وتمثل الثغرة القانونية التى تتعلق بالحفاظ على الأسرة، أحد أهم الأسباب لامتداد إعارة أعضاء هيئات التدريس فى الجامعات الحكومية لمدد تصل أحياناً إلى عشرين عاماً. ولا يوجد فى العالم قاطبة أى نظام يسمح بهذا. وإذا كان التعليم مسئولاً بدرجة كبيرة عن إعداد وتأهيل وتشكيل مواصفات رأس المال الإنسانى فى المجتمع، فينبغى أن تكون أجور وحوافز العاملين فى كل المستويات التعليمية، تكفى حد الإعاشة الكريمة، وحد الكفاءة فى الأداء، وحد النزاهة فى الممارسات، وكذلك تكفى لاستبقاء العناصر المتميزة من أعضاء هيئات التدريس.
المناهج لا تتضمن ترسيخ قيم يحتاجها المجتمع مثل المواطنة والعمل والأخلاقيات القويمة
- غياب نظام لإدارة أداء وممارسات العاملين فى قطاع التعليم. ويمثل نظام إدارة الأداء للعاملين أحد النظم الحديثة فى مجال إدارة الموارد البشرية، حيث تأخذ به الكثير من دول العالم الآن، ليس فقط فى القطاع الخاص، وإنما فى القطاع الحكومى، وفى مجال التعليم. ويقوم هذا النظام على تخطيط الأداء خلال فترة محددة من حيث مخرجاته ونواتجه وممارساته والجدارات التى يتطلبها، كما يقوم على متابعة الجهود المبذولة فى هذا الشأن وتنمية قدرات العاملين من قبل المشرفين، وتقييم الأداء وفق الخطة الموضوعة، وتحفيزه وفق ما تحقق منه. ويتم كل هذا بمشاركة ديمقراطية من قبل العاملين. وتعتمد النظم القائمة فى هذا المجال فى مصر فى قطاع التعليم على معايير وأساليب صورية. وفى التعليم العالى، هناك غياب كامل لأى صورة من صور تخطيط الأداء التعليمى، أو متابعته، أو تقييمه، أو تحفيزه. وفى غيبة هذا لا ينتظر أن تكون الجهود والممارسات التعليمية محققة لما هو مستهدف منها، لأن هذا المستهدف لا يتم تحديده أو قياس المتحقق منه أصلاً.
- ضعف الروادع والعقوبات على ممارسات الفساد فى كل مراحل التعليم. وتمثل عوامل الردع والعقاب على ممارسات الفساد إحدى الوسائل الهامة المكملة والمتضافرة مع العوامل والأسباب الأخرى فى عدم تركه يتوسع وينتشر ويتغلغل، على النحو القائم فى قطاع التعليم. والخطير فى هذا الأمر أن المؤسسات التعليمية اكتسبت ثقافة تتضمن التساهل والتسامح مع ممارسات الفساد والخروقات القانونية المتعلقة، بحكم شيوعها.
- ضعف الموازنات المخصصة لقطاع التعليم، على المستوى القومى، وضعف عوائدها التنموية. فمثلاً يؤدى ضعف موازنات الجامعات إلى لجوئها لتنمية مواردها الذاتية من خلال البرامج الخاصة ذات العائد، والتوسع المفرط فيها. هذا فضلاً عن غياب الرقابة على مضامين هذه البرامج، وارتباطها بممارسات ساعية لزيادة الدخل من خلالها، وأحياناً سلوكيات التربح فى هذا الخصوص. وقد وصل الأمر إلى سعى الجامعات الحكومية ليس فقط لتشجيع استحداث برامج مدرة للدخل، بل إلى إنشاء جامعات أهلية، كوسيلة لزيادة إيراداتها ليس إلا. ويمثل ضعف الموازنات عاملاً رئيسياً فى ضعف رواتب العاملين فى مهن التعليم عموماً. كذلك يؤدى ضعف الموازنات إلى تقليص موازنات وبرامج الابتعاث إلى الخارج.
- ضعف الشفافية والمساءلة فى الجوانب المالية للمؤسسات التعليمية. وتعتمد الرقابة التى تتم فى هذا الخصوص على المؤسسات التعليمية الحكومية من قبل أجهزة الرقابة، مثل وزارة المالية والجهاز المركزى للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية، على أساليب تقليدية تعتمد على صحة الإجراءات والمستندات الرسمية. والرقابة فى مجملها رقابة مستندية. ولا توجد نظم للرقابة على الأداء، لأن نظام الموازنة نفسه لا يتضمن أهدافاً مخططة أو مؤشرات أداء مستهدفة. كما لا توجد رقابة على الممارسات التعليمية. وليس هناك نظم لتقوية الشفافية وكشف الممارسات غير القويمة فى هذا الخصوص. وكذلك الرقابة على الممارسات المالية خاصة جوانب الدخل (بما يتضمنه من عناصر مغالى فيها أو مستترة) لمدارس ومؤسسات التعليم العالى الخاصة.
- تشوه الوعى والثقافة المجتمعية، بشأن التعليم، وتراجع دور الأسرة كعامل رئيسى ومتضافر مع دور المدرسة، فى التشكيل التربوى والسلوكى. فالأسر لا تسعى إلى اكتساب أبنائها للمعرفة والسلوكيات القويمة من خلال المؤسسات التعليمية. وإنما هدفها الأساسى، وهدف الطلاب أنفسهم، هو اجتياز الامتحانات والحصول على الشهادات. فالطلب على المعرفة تحول إلى طلب على الشهادات، بصرف النظر عن جودة مضامينها والحصيلة المعرفية التى تعبر عنها. وبانهيار دور المؤسسات التعليمية فى الجوانب التربوية وكذلك التعليمية، وتضافر هذا مع تراجع دور الأسرة، فإن الآثار الناجمة على العنصر البشرى وخيمة. ونتاجاً لانتشار الفساد فى هذا القطاع حدث نوع من التسامح والتساهل من قبل المجتمع تجاه الممارسات غير القويمة فيه. بل وصل الأمر إلى تشجيع الأسر وانخراطها فى بعض ممارسات الفساد كما سبق إيضاحه.
استراتيجيات وآليات مقترحة للتصدى للفساد فى قطاع التعليم
استناداً إلى الخبرات العالمية فى التصدى للفساد فى مجال التعليم، وإلى خصوصية أنماطه وأشكاله، يمكن التمييز بين نوعين من الاستراتيجيات والآليات. أولهما وربما أكثرهما أهمية هو استراتيجيات وآليات المنع والوقاية، التى تقوم على إصلاح منظومة حوكمة التعليم فى كل مستوياته ومؤسساته بما فيها تقوية معايير وممارسات النزاهة والشفافية والمساءلة. وثانيهما استراتيجيات وآليات الكشف والمكافحة والملاحقة والردع لممارسات الفساد.
أولاً: استراتيجيات وآليات المنع والوقاية.
1- تحليل والتعرف على المخاطر والثغرات التى تسمح بممارسات الفساد. وتمثل هذه الآلية وسيلة فنية لتحديد مناطق الخطر والثغرات التى ينفذ منها الفساد. ويتم هذا من خلال تحليل منظومة القرارات فى مجال التعليم وفى كل مستوى منه ومؤسسة فيه وعمليات تتعلق به. وهناك الآن فى أدبيات وخبرات مكافحة الفساد قواعد وأساليب لتحليل هذه المخاطر Corruption Risk Analysis. وينبغى أن يتم هذا من خلال ذوى الخبرة فى تحليل مخاطر الفساد فى نظام التعليم، وكذلك فى ضوء رصد وتحليل ولو مبدئى لكثافة أنواع الفساد وللآثار السلبية الناجمة عنها. وفى ضوء ما يتمخض عن تحليل المخاطر، أى الفرص والثغرات التى ينفذ منها الفساد وأسبابها وآثارها، يتم تحديد الإصلاحات والتطويرات المؤسسية التى تكفل منعه والوقاية منه. ويتم التركيز هنا على الثغرات التى تتيح وقوع أكثر من نمط من أنماطه.
2- إصلاح نظام حوكمة التعليم فى كل مراحله لأغراض الوقاية من الفساد. وغالباً ما تتضمن استراتيجيات الوقاية إصلاحات فى الحوكمة تتضمن نظم العمل والإدارة والرقابة التى غالباً ما تتطلب تعديلات تشريعية أو لائحية أو إجرائية تكون متعلقة بنطاق السلطات وبمعايير وآليات المساءلة والشفافية عن الأداء والقرارات والممارسات المرتبطة به. كما قد تتطلب تغييراً فى المعايير الوظيفية للتعيين والتحفيز والترقى والحراك الوظيفى، لتشتمل على عناصر تتعلق بالنزاهة، لتقليل مخاطر الفساد المرتبط بخصائص الأفراد.
3- إدخال إصلاحات جوهرية على نظم الوظائف التعليمية والأكاديمية. وينبغى أن تشمل هذه الإصلاحات كحد أدنى ما يلى:
- إدخال نظم حديثة للإدارة والرقابة والمساءلة عن الأداء والممارسات التعليمية، مثل نظام إدارة الأداء على المستوى المؤسسى والفردى فى مؤسسات التعليم قبل الجامعى والتعليم العالى كذلك.
- إحياء الدور التربوى والسلوكى للمؤسسات التعليمية فى كل مستوياتها، وإدخال أهداف ومؤشرات أداء وجدارات مطلوبة تتعلق بجوانب هذا الدور.
- إدخال تغيير شامل فى نظم ومعايير تأهيل وإعداد وتنمية قدرات وجدارات المعلمين فى المدارس وأعضاء الهيئة الأكاديمية فى الجامعات والمعاهد العليا، لضمان امتلاكهم للجدارات المختلفة المستهدفة فى تشكيل وتنمية مختلف القدرات والجدارات العقلية والبدنية والوجدانية والأخلاقية لدى الطلاب، فى كل مراحل التعليم.
4- إعادة بناء نظم الأجور والحوافز للعاملين فى مهن التعليم فى كل مستوياته. ويعتبر هذا أحد الشروط الأساسية لضمان أن يفى الأجر والحوافز بحد الإعاشة، وحد الكفاءة، وحد النزاهة، وكذلك حد استبقاء العناصر والكوادر المتميزة. ودون هذا تكون الفرص متاحة لانخراط الأفراد فى ممارسات غير قويمة وفى التحايل على القواعد واللوائح القائمة. وينبغى أن يعبر مستوى الأجور والحوافز هنا عن أهمية وخطورة دور العاملين فى مهن التعليم. كما سيمكن الرفع الجوهرى لهذه العناصر من أن تكون هذه المهن جاذبة لذوى القدرات والجدارات المتميزة فى إقبالهم على مؤسسات إعدادهم وتأهيلهم، وكذلك فى سوق العمل. وفى بعض الدول المتقدمة تمثل رواتب المعلمين فى مراحل التعليم الأساسى مثلاً مستويات قد تفوق الكثير من المهن الأخرى، وحتى المدرسين فى مستويات تعليمية أعلى. ويرجع هذا إلى إدراك هذه الدول خطورة مراحل التعليم الأولى فى تشكيل القدرات والسلوكيات الأساسية التى تعتمد عليها المراحل الأعلى. ونفس الشىء ينطبق على الأجور والحوافز فى التعليم العالى، لأنه يتعلق بتكوين التخصصات المهنية والفكرية الرفيعة، فضلاً عن دور مؤسساته فى تنمية المعارف والإضافة إلى حصيلتها العلمية والبحثية.
5- إدخال تعديلات استراتيجية فى هيكل التعليم العالى. ويستهدف هذا القضاء على ظواهر وتوابع التهجين الذاتى، والتوريث الأكاديمى، والتجمعات العائلية فى الأقسام الأكاديمية. وسيتطلب إنهاء نظام التهجين الذاتى، إنشاء جامعات للدراسات العليا والبحوث للابتعاث الداخلى لأعضاء الهيئة الأكاديمية المعاونة من قبل الجامعات ذات الاحتياج. ويكون لهذه الجامعات الجديدة نظام مستقل يسمح باجتذاب أعضاء هيئات التدريس من العلماء والباحثين المتميزين، يتم استقطابهم من داخل الجامعات المصرية، وكذلك من المصريين المغتربين ذوى الجدارات العالية، وغيرهم من ذوى التميز. أما الجامعات القائمة فتقبل طلاب دراسات عليا من غير العاملين فيها، كعنصر مكمل فى هذا الخصوص. وينبغى أن توضع ضوابط ومعايير لقيام الجامعة بتقديم برامج دراسات عليا فى كل تخصص، حيث إن الوضع الحالى قد خرج عن السيطرة تماماً. فلا يوجد الآن ضمن الجامعات المصرية جامعات متخصصة فى الدراسات العليا والبحوث. ويتطلب القضاء على الظواهر والثغرات الأخرى الهيكلية والنظامية تعديلات فى التشريعات واللوائح لمنعها، وللقضاء على أساليب التحايل بشأنها.
6- إخضاع البرامج ذات العائد فى الجامعات، وكذلك برامج التعليم الخاص والأهلى فى كل مراحله، لضوابط مشددة للجودة الفعلية (وليس الورقية الصورية). كذلك يكمل هذا وضع ضوابط مشددة للأعباء التدريسية فى البرامج ذات العائد، مع تقوية معايير المساءلة عن الجودة ونزاهة الممارسات التعليمية فى كل جوانبها.
7- تضمين ممارسات الفساد فى قطاع التعليم فى مهام الأجهزة الرقابية. ويعنى هذا اشتمال مسئوليات هذه الأجهزة الممارسات المستترة والمتنوعة للفساد فى التعليم التى أشرت إليها فى المقالة السابقة. وسيتطلب هذا بناء قدرات هذه الأجهزة فى هذا المجال. وهنا يكون دور الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد التى أنشئت حديثاً.
8- التعلم والاقتباس من الخبرات العالمية فى الضبط والرقابة والمساءلة عن الجوانب المالية لعمل المؤسسات التعليمية. وذلك بالتحول إلى نظام موازنة الأداء، والرقابة على النتائج والممارسات الفعلية فى مؤسسات التعليم. ويتطلب هذا تحولاً فى النظم المالية شاملاً الموازنة، وكذلك إدخال آليات جديدة لتعزيز الشفافية وعدم الاعتماد كلية على الرقابة الإجرائية والمستندية وحدها.
9- ضرورة أن يتضمن برنامج الإصلاح لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد فى التعليم، حملة قومية كثيفة وممتدة لتصحيح وتنمية وعى المجتمع حول التعليم الجيد النزيه ودوره. ويشمل هذا إحياء دور الأسرة فى هذا الخصوص. وهناك ضرورة لحملات قوية وممتدة لتغيير الثقافة والقيم والمفاهيم داخل مؤسسات قطاع التعليم ذاته لتتسق مع أهداف ومضامين الإصلاح.
ثانياً: استراتيجيات المكافحة والملاحقة والعقاب
تتضمن هذه الاستراتيجيات آليات متنوعة لتحقيق الشفافية وانكشاف الممارسات الفاسدة وملاحقتها وإنزال العقاب عليها وردعها. وفيما يلى أهم هذه الاستراتيجيات والآليات:
1- وضع لوائح وضوابط جديدة لتحديد والتعريف بممارسات الفساد فى مؤسسات التعليم، وأركانها. وينبغى أن تتضمن هذه اللوائح والضوابط، ما يكفل اشتمالها على كل صور وأنماط الفساد فى مجال التعليم، وكذلك ما يضمن كشفها.
2- تشديد العقوبات والروادع على حالات الفساد. وسيتطلب هذا إعادة النظر بصورة شاملة فى القوانين واللوائح الحاكمة للممارسات التعليمية وللجزاءات العقابية على المخالفات والجرائم المتعلقة بها.
3- إنشاء وحدات ولجان لمكافحة الفساد فى كل مستويات ومؤسسات التعليم. وينبغى أن تضم هذه الوحدات واللجان فى تشكيلها أفراداً يختارون بعناية، منهم خبراء وأولياء أمور وأطراف غير تنفيذيين. وتكون مهام هذه الكيانات تلقى شكاوى وبلاغات الفساد، والتحقق المبدئى منها ثم إحالة ما يتضمن وقائع عن الفساد إلى الجهات القانونية التى تقوم بالتحقيق فيها، ودفع الحالات مكتملة الوقائع والأركان إلى المسار القانونى العقابى الرادع. كما تتضمن مهامها اقتراح آليات لكشف وردع ممارسات الفساد.
4- استصدار تشريع لحماية المبلغين والخبراء والضحايا فى قضايا الفساد عامة، ليمكن تطبيقه فى قطاع التعليم. ويمثل هذا نقصاً تشريعياً ينبغى علاجه، حتى لا تتعرض هذه الأطراف لإجراءات انتقامية من قبل الجهات التى يوجد فيها فساد، أو الأطراف القائمة به. ويعتبر هذا التشريع ضرورياً لتحجيم الفساد عامة، شاملاً الفساد فى قطاع التعليم.
5- استحداث مرصد على المستوى القومى، لرصد ونشر مؤشرات عن الفساد فى قطاعات ومؤسسات التعليم. ويمثل هذا المرصد آلية لرصد ونشر مؤشرات عن الفساد فى التعليم وعن التقدم المحرز فى خطط وسياسات وجهود التصدى للفساد فى هذا المجال.
كلمة أخيرة: لكى يتم التصدى للفساد الذى تغلغل فى قطاع شديد الحيوية وهو التعليم، ينبغى أن تتمتع كل جهود الإصلاح، التى تستهدف منعه وتقليله وتحجيمه ومكافحته، بدعم سياسى قوى على أعلى مستوى، وكذلك دعم مجتمعى يتضمن استنهاض وعى المجتمع بأهمية جودة التعليم ونزاهته. وضمن الدعم المطلوب من الدولة أن تزاد موازنات وموارد التعليم فى كل مراحله، مع وجود ضمانات ليكون الإنفاق فيه مخططاً وموجهاً توجيهاً صحيحاً، ويتضمن مساءلة عن نتائج هذا الإنفاق وتقييماً دورياً لعوائده.