الطريق إلى إثيوبيا (3) أدغال مطار أديس أبابا
أفلتت الطائرة من العواصف الرعدية وهبطت بصعوبة بالغة، ولم أتعجب من قيام ركاب الطائرة بتهنئة بعضهم البعض، لدرجة أن العجوز التى كانت بجانبى أفلتت يدى التى كانت ممسكة بها طيلة الاضطرابات الجوية التى دامت لنحو 22 دقيقة تقريباً، وقامت وعانقت شابة أغلب الظن أنها أفريقية كانت جالسة على يمينها بعد الممر، وطال الحضن فترة طويلة حتى إن الشابة نظرت إلىّ متعجبة وكأن عينيها تقولان لى: ماذا تفعل بى أمك؟
غادرنا الطائرة وهبطنا أرض المطار، وكل منا ينظر للسماء الممطرة، البعض وضع حقيبته الصغيرة فوق رأسه، والبعض لم يستطع، وتعايش مع فكرة الاستمتاع بهطول المطر فوق رأسه، ونحن فى انتظار باص المطار الذى تعامل معنا كأننا على محطة أوتوبيس، فحدث هجوم عليه، ليتمكن المزاحمون من اللحاق بركوبه.
وقفت مع العجوز الإنجليزية والفتاة الإثيوبية وكثير من العائلات الذين رفضوا فكرة التزاحم، مفضلين انتظار الأوتوبيس نفسه بعد تفريغ حمولته والعودة لتحميل الشحنة الملقاة على الأرض، لكن بعض الركاب قرروا عدم التزاحم وفى نفس الوقت عدم الانتظار، فقرروا التحرك مترجلين نحو مبنى المطار، على اعتبار أننا فى موقف عبدالمنعم رياض، أو فى أدغال أفريقيا.
كنت أتوقع أن يهرع إليهم أمن المطار أو العاملون لدى سلطة الطيران المدنى لمنعهم من تلك الجريمة الدولية، لكن أحداً لم يوقفهم، وظللنا ننظر إليهم ونحن فى دهشة، كيف قطعوا ممرات الطائرات يجرّون خلفهم حقائبهم، كأننا فى مطار المنوفية بشارع شبرا، أو فى موقف الترجمان بالسبتية.
أخيراً جاء الباص، ونزل الجميع من كبريائه مفضلين التزاحم عن الوقوف تحت المطر المنهمر، وأمام باب الباص كان الاندفاع جنونياً، لكن الباب لم يفتح، بل إن الباص تحرك، بفعل أوامر صارمة من إحدى العاملات فى المطار، طالبته بالتحرك قليلاً للأمام، تعجبنا فى البداية، لكن لما عُرف السبب، بطل العجب.
كان قائد الطائرة يريد أن يتحرك، كأنه سائق ميكروباص فى الأزبكية، وكان الباص يقف فى طريق حركته، فيبدو أنه اتصل بأمن المطار أو ما شابه، فأيقظهم ليظهروا فجأة لتحريك الباص من طريق الطائرة، مشهد تحرك الطائرة ونحن على الأرض بجوارها كان مفزعاً، فحشرنا أنفسنا حشراً فى الأوتوبيس.
مرت تلك الدقائق علىّ كأنها ساعات، فقد كان اندفاع الركاب لا يتقيد بأصول أو تقاليد مرعية، وكانت السيدة العجوز تعتقد أننى حارسها الشخصى، فتعلقت بقميصى من الخلف، حتى وجدت لها نص كرسى فأجلستها عليه، ثم فوجئت بموجة بشرية طاغية ألصقت ظهرى بالشباك وفى وجهى التصق وجه الشابة الإثيوبية.
كان الأمر محرجاً لى بشدة، خاصة عندما وجدت ابتسامة خبيثة على وجه بعض الرجال، وتأففاً على وجه بضع نسوة، فقلت فى نفسى: لن أبدأ زيارتى لإثيوبيا بقضية تحرش وفعل فاضح فى أوتوبيس عام، فاستجمعت ما أوتيت من قوة، لأوجه وجهى وأدور بجسدى نحو زجاج الأوتوبيس، وهو ما فعلته بصعوبة بالغة.
ظل وجهى ملتصقاً بزجاج الأوتوبيس طيلة الدقائق التى احتجناها للوصول إلى مبنى المطار، وما إن بدأ الركاب فى النزول من الأوتوبيس، حتى انفجرت السيدة الإنجليزية فى وجه الشابة الإثيوبية غاضبة من تصرفها، خاصة أنها كان بمقدورها أن تقف بجانبها، لا أن تفعل بى هذه الفعلة، وبمنتهى البرود، ردت عليها وقالت: إذا كان ابنك لم يغضب، فلماذا أنت غاضبة هكذا؟».
كان فى انتظارى موظفو مكتب هيئة الاستعلامات المصرية فى أديس أبابا، الذين كانوا كطوق النجاة بعد كل ما مررت به، وما إن وجدت اسمى على ورقة بيضاء محمولة باليد حتى قلت «تحيا مصر» فى سرى، وبالفعل انتهت كل مشاكل الرحلة وأزماتها، فقد كانوا خير دليل فى تلك الأرض المجهولة، أو بمعنى أدق التى كانت مجهولة بالنسبة لى.
إثيوبيا التى نسمع عنها، ونبادلها التوتر والغضب، ليست هى إثيوبيا الحقيقية، وشعبها ليس موظف السفارة المتعنت، أو موظف الطيران المتزمت، هى بلد كبير وعظيم ومحترم، لكن فى الفترة ذاتها جاء عليهم وعلينا حكام لم يتقوا الله فينا، ولم ينظروا إلا لمصلحتهم ومصلحة جماعتهم، وأعملوا فينا الجهل والتخلف.
أحد حكامهم أقنعهم بأن مصر على الحدود تريد احتلالهم، وبعد ساعات جاء أحد حكامنا ليزيد الطين بلة واستحضر بضعة «معاتيه» ليطالبوه بغزو وقصف إثيوبيا، من هنا كانت بداية الأزمة الكبيرة التى نسعى بجهد لحلها منذ خمس سنوات.