إعادة إنتاج الاضطراب فى مياه «بحر إيجة»
تركيا التى تجيد فن التعامل بألف وجه، وتبدل الأقنعة التى ترتديها على مدار الساعة، كانت فى الوقت الذى خرجت لتعلن أنها بصدد جمع الأطراف المتشاركة بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، إلى التعاون مع تركيا من أجل حل مشكلات المنطقة، تتحرك بفرقاطاتها العسكرية لترافق سفن المسح والتنقيب على ذات المسرح الذى تتحدث عنه. واقعة سفينة المسح التركية «أوروتش رئيس» تبدو أنها ستكون بداية لفصل جديد، لما تنوى أنقرة تجربته فى تلك المنطقة، السفينة التركية ظلت تتحرك بين قبرص وجزيرة «كريت» اليونانية بالقرب من الفرقاطات العسكرية اليونانية، التى وجدت داخل مياهها الاقتصادية فى حالة استنفار، بعد تدعيم نشاط البحث التركى غير القانونى، بمجموعة من سفن الحراسة التابعة للبحرية التركية، السفينة «كمال رئيس» كانت إحدى تلك السفن التى اضطرت الفرقاطة اليونانية «ليمنوس»، للقيام بعملية مناورة ناجحة، واقتصر الأمر على «ملامسة» خشنة من قوس مقدمة الفرقاطة اليونانية لمؤخرة السفينة الحربية التركية.
الفرقاطة اليونانية «ليمنوس» لم يلحق بها أى أضرار، بل وشاركت فى مناورة عسكرية مشتركة مع فرنسا قبالة جزيرة كريت فى صباح اليوم التالى للحادث، فى الوقت الذى تأذت فيه السفينة التركية على نحو بالغ، للحد الذى دفع مسئولى البحرية إلى سحبها سريعاً من المكان، من دون التعليق على الحادث بالصورة التى تليق به، على اعتبار أنه أول عملية «تلامس فعلى» ما بين البحرية اليونانية والتركية فى المنطقة التى تشاغب فيها الأخيرة. الصحافة اليونانية نشرت ما جرى، مصحوباً بصور من موقع الحادثة تؤكد تضرر السفينة التركية بضرر بالغ، ونشر المراسل العسكرى «بول أنتونوبولوس» على موقع «جريك سيتى تايمز» تقريراً مهماً لمراحل عدة مما جرى، أكد فيه نقلاً عن مصادر عسكرية يونانية كانت موجودة بالموقع، أن الأداء العسكرى المتواضع والمرتبك للسفينة التركية كان بادياً للعيان بصورة كبيرة، وأن هناك اتفاقاً ضمنياً جرى التوصل إليه لعدم السماح بأن تصبح الأخبار عن الموضوع كبيرة للغاية. رغم أن الصحافة اليونانية كشفت أن فرقاطة «كمال رئيس» التركية، هى واحدة من أحدث الفرقاطات فى البحرية التركية وتنتمى إلى فئة «بارباروس» التى تم تشغيلها بداية من العام 2000، فى حين أن الفرقاطة اليونانية «ليمنوس» هى فرقاطة قديمة تم تشغيلها عام 1982، حيث تعد واحدة من جيل السفن الأدنى مستوى فى البحرية اليونانية. لكن هذه الأخيرة تمكنت بإصابة محدودة ومناورة ناجحة، من إتلاف السفينة التركية بما يكفى لاضطرارها للعودة إلى الميناء، مما يدل ويؤكد مرة بعد مرة، تفوق الملاحة البحرية اليونانية عن نظيرتها التركية.
الواقعة بتفاصيلها المعلنة وغير المعلنة، أعادت قليلاً ترتيب المشهد على نحو مغاير بالنظر إلى تزامنها مع الوجود الفرنسى الذى وصل المنطقة فى اليوم التالى مباشرة، بل ربما ساهمت إلى حد كبير فى ضبط الخطاب التركى على الأقل، لتظهر بين طياته أخيراً نبرة اللوم بديلاً عن حالة الهجوم المستعر، الذى ظل يطلقه فى وجوه اليونانيين والقبارصة طوال شهور مضت. وزير الخارجية جاويش أوغلو بدا متألماً فى سويسرا وهو يعلق على حادث التصادم العسكرى، حين أشار إلى أن على أثينا أن تتصرف بـ«عقلانية»، ودعا الاتحاد الأوروبى إلى التوقف عن «تدليل» اليونان، فأنقرة ترى أن من واجب الاتحاد ألا يمنح اليونان «دعماً غير مشروط». هذا بالطبع لا يعدو كونه مبالغة تركية اعتادت على استخدامها، خاصة فى المحافل ذات الأطراف الدولية المتنوعة، وهى بدهاء تدرك حجم الانقسام الذى يضرب الاتحاد الأوروبى حول هذا الأمر، وترقب عن كثب تعثر الجهود اليونانية والفرنسية فى تمرير لائحة بالعقوبات على تركيا، وتعقيب دول الاتحاد بضرورة خفض تصعيد التوتر واعتماد نهج التفاوض، كما جرى تأجيل الحسم إلى مراجعة الموقف مجدداً فى اجتماع ببرلين يعقد نهاية الشهر.
الوجه الآخر لتركيا، وقناع اللوم الذى خلعته سريعاً بعد ساعات من مغادرة سويسرا، تمثل فى الإبحار تجاه قبرص بعد التعثر مؤقتاً أمام البحرية اليونانية، لتعلن السبت الماضى، إخطاراً بحرياً بمواصلة أعمال التنقيب داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص. مما استلزم إصدار قبرص للإنذار الملاحى «نافتكس» رداً على الإخطار التركى الذى يعد من وجهة نظرها نشاطاً غير قانونى، حيث شمل الإخطار البحرى التركى منطقة (بلوك 6) القبرصية، حيث تواصل السفينة التركية أعمالها فى المنطقة الواقعة جنوب غرب الجزيرة حتى 15 سبتمبر القادم. تاريخ هذا التحرش التركى بدأت محاولاته منذ أبريل الماضى، عندما أعلنت أنقرة تجديد محاولتها للحفر فى الجرف القارى للجمهورية القبرصية، فى بلوك مرخص من قبلها لشركات دولية للعمل فيه. وفى شهر يوليو دخلت سفينة أبحاث تركية فى بلوكات (2 و3 و13) من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، وتأتى خطوة هذا الأسبوع لتعيد الموقف للمربع صفر ما بين تركيا وقبرص مرة أخرى.
جرى الإعلان مؤخراً عن تفعيل اتفاقية التعاون الدفاعى ما بين قبرص وفرنسا، التى وقعت فى عام 2017 ودخلت حيز التنفيذ مطلع الشهر الجارى، حيث دفعت الأخيرة بعدد من مقاتلات «الرافال» وطائرة نقل عسكرية «C 130» استقرت بقاعدة «أندرياس باباندريو» الجوية. أوكلت لهذه الطائرات بالتعاون مع السفن الفرنسية مهام القيام بتأمين المنطقة الاقتصادية لقبرص، فى شرق البحر المتوسط. تزامناً مع ما تبحث اليونان عنه من موقف أمريكى «غائم» من مجمل هذا المشهد المتوتر، حيث اقتصر الإسهام الأمريكى على «مجرد» تقديم دعم لقبرص، تمثل فى برامج تدريبية للحرس الوطنى القبرصى، ولليونان على لسان سفير الولايات المتحدة بأثينا بعض من التصريحات الإعلامية، من نوع إدانة الخارجية الأمريكية لاستمرار أنقرة فى تصعيد التوترات فى منطقة المتوسط. لذلك يبقى هذا المستوى المحدود من التوافق الأوروبى، والرمادى الأمريكى، بدرجة من الهشاشة تدفع الأطراف إلى رسم خطوط تحركاتهم بأيديهم، ويواجهون الاضطراب المتجدد بأدواتهم الذاتية غير القادرة على الحسم حتى اللحظة.