التاريخ المجهول مع عظيمات مصر.. ناهد يوسف (١)
- البحث العلمي
- التعليم العالي
- الثانوية العامة
- المستشفيات الجامعية
- المهندس شريف اسماعيل
- تطوير التعليم
- رئيس مجلس الوزراء
- اجتماعات
- البحث العلمي
- التعليم العالي
- الثانوية العامة
- المستشفيات الجامعية
- المهندس شريف اسماعيل
- تطوير التعليم
- رئيس مجلس الوزراء
- اجتماعات
كان مسئول الرئاسة قد سبق وذهب إلى حى الأميرية تاركاً عدداً آخر يبحث عنها فى كل مكان.. لا هاتف منزلها يرد ولا أحد من زملائها يعرف أين هى وليست طبعاً فى مكتبها فاليوم يوم جمعة!
هكذا تفرغ عدد من المسئولين للبحث عنها ولم يكن من حل إلا بالتوصل إلى مساعدها سيف النصر عبدالعال، الذى تعامل مع الموضوع بجدية وذهب إلى الأميرية ليكون أمام مصنع الدواء فى الموعد المحدد وفى استقبال مسئول الرئاسة.. وهناك وبعد استقبال سريع قال المسئول حرفياً: «أطلب منكم هذا الطلب بناء على طلب من الرئيس عبدالناصر شخصياً»!
كانت العبارة كافية ليشكل سيف النصر خلية عمل للتوصل إلى مكان الدكتورة ناهد يوسف، التى كانت فى ريف مصر الطيب تقضى إجازتها، وعبر الهاتف قال لها مساعدها حرفياً: «الرئيس عبدالناصر يبلغك رجاءه الشخصى.. دولة... تتعرض لوباء الكوليرا.. ومصر لن تقف تتفرج على دولة أفريقية يضربها الوباء، والأمصال والعلاج الذى ننتجه يجب أن يسافر غداً السبت على متن طائرة حربية ستغادر خصيصاً ولا وقت أمامنا إلا باقى اليوم.. والعمال فى إجازاتهم واستدعاؤهم سيستغرق اليوم كله.. ولا أعرف ماذا أفعل»!
وقع الخبر على الدكتورة ناهد يوسف كالصاعقة، لكنها وبخبرات ثبات سابقة فى مواقف عديدة قالت له: «اخرج الآن لميدان الأميرية واعرض على الشباب الذى تجده الأمر واشرح لهم القصة وامنحهم أى أجر يطلبونه.. واشرح لهم المطلوب منهم وابدأ على الفور»!
كان التكليف مخيفاً.. هذا ليس محل تجارة عادية ولا محل خردوات.. إنه مصنع للأدوية والأمصال وله خصوصيته وله أسراره، فضلاً عن شروط دخوله.. وكل ذلك أبلغه سيف النصر للشباب الذى اقتنع على الفور وسلم نفسه لمدير المصنع المناوب.. وبالفعل استبدلوا جميعاً ملابسهم وأخذوا حمامات للتطهير ثم دخلوا إلى غرفة تعقيم وارتدوا ملابس المصنع وأنجزوا مهمة التعبئة والتغليف، ثم تجهيز الكراتين ثم جاءت سيارات من القوات المسلحة، ومنها إلى أحد المطارات ومنها إلى الدولة الأفريقية، ولعبت مصر دورها فى إنقاذ هذه الدولة، وما كان إلا تلقيهم شكراً خاصاً من الزعيم عبدالناصر ذكر فيه شركة النيل للأدوية، بل وشباب الأميرية ممن شاركوا فى العملية!
إنها «حدوتة» مثيرة للغاية تستحق تدوينها وأن تتحول إلى نموذج يحتذى به فضلاً عن تكريمها.. وهى «حدوتة» تستحق عن جدارة لتتحول إلى عمل فنى.. بل هناك فرق بين سيرة وسيرة.. إحداهما تشكل مثالاً يستحق الاقتداء به.. يفخر به شعبنا وأبناؤنا والأجيال المقبلة كلها.
تخرجت ناهد يوسف فى كلية الصيدلة فى يونيو عام 1956 كواحدة من سبعين طالبة وطالباً تخرجوا فى كليات الصيدلة المصرية وقتها.. والصدفة وحدها وجهت عينيها لإعلان لأحد مصانع الأدوية بشبرا يطلب صيدلانياً يعمل لديه.. كان المصنع اسمه «إيكاديل» يملكه صيدلانى يهودى اسمه «مسيو نادل»، كان مصنعه ينتج خلاصات الأعشاب وبعض سوائل الحقن وسوائل الأدوية للشرب وبعض أنواع الأقراص العادية والمغلفة، ومع ذلك رأته أقرب إلى الورشة وتعمق الاعتقاد بعد دخول مصر عصر صناعة الدواء الحقيقية فيما بعد!
أيام وأسابيع وأمم جمال عبدالناصر قناة السويس وتواطأ عدد من وكلاء شركات الدواء الأجنبية مع المعتدين رغبة فى كسر مصر وهزيمتها وعلى الأقل إحراج عبدالناصر ووضعه فى موقف سيئ أمام توفير الدواء لشعبه.. فجاء الرد سريعاً بتمصير وتأميم شركات الأدوية الأجنبية، وأمهلت الدولة أصحابها مهلة من الوقت لتنفيذ القرار، فغادر مصر على الفور «مسيو نادل»، لتجد الدكتورة ناهد نفسها وهى فى بداية العشرينات من عمرها مسئولة رسمياً وبقرار من الدولة عن مصنع «إيكاديل»!
كان أخطر ما اكتشفته وهى الخريجة الطموحة هو الوضع الذى وصفته بـ«البائس والخطر»، والمؤسف أيضاً لحال صناعة الدواء فى مصر وأن كل هذه الشركات التى كانت موجودة بحجمها الصغير تنتج ما يعادل 5% من احتياجات المصريين من الدواء!!
لم يكن ذلك المؤسف والبائس وحده.. بل ما قالت إنه حجم الفساد المكتشف بعد أن غادر الملاك الأجانب هذه المصانع من تلاعب فى أسعار الكيماويات والأدوية المستوردة والمبالغة فى أسعار البيع وأيضاً: التهرب من الضرائب!
المعلومات السابقة وهى جزء يسير من معلومات هائلة جاءت فى كتاب الدكتورة ناهد المهم جداً «دواء وعلل.. قصتى مع صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة»!
مشاهد كثيرة ترويها ناهد يوسف.. منها أول التغيرات فى الإدارة الجديدة، وكانت قرارات مهمة، منها رفع الحد الأدنى للأجور وتطبيق قانون العمل على الجميع.. ولا تنسى كيف كان المشهد مؤلماً والمديرون الأجانب يركلون العمال المصريين فى أى خطأ.. ثم يلقى بهم خارج المصنع فى الحال.. ولا إنصاف للمصرى فقد كان أغلبهم يرسل مظروفاً شهرياً لمكاتب العمل!!
لا تنسى كيف تم حصر المستحضرات المستوردة واختصارها من خمسين ألفاً إلى خمسة آلاف بعد غربلتها واستبعاد الشركات الأوروبية المغمورة وإسقاط المستحضرات المكررة والمصنعة بمصانع مشبوهة وإسناد توزيع هذه المستحضرات إلى الشركة العامة للتجارة والكيماويات، التى أسست لهذا الغرض قبل تأسيس غيرها فيما بعد عقب التوسعات الكبرى.. لكن للأسف كان شعبنا قبل ذلك تناول كل هذه الأدوية المغشوشة سعراً وتركيباً!!
تحكى الدكتورة ناهد كيف انطلقت صناعة الدواء فى مصر رأسياً وأفقياً، وتكاملت لتشمل الصناعات التكميلية مثل العبوات والتغليف وغيرها، وتفتخر أنها شاهدت بلدها يتخلص من تبعيته للغرب فى صناعة مهمة يكسر أمام عينيها احتكارها!
وتمضى الأيام لتنتقل إلى مصنع النيل للأدوية الذى تأسس فى الأميرية فى زمن قياسى وافتتح عام 1964 بأقل تكلفة وأعلى إمكانيات ليكون فخراً لمصر والعرب.. وتتولى الإشراف على أحدث مصنع للأمبولات، ينتج وقتها 100 مليون أمبول سنوياً من مختلف التركيبات حتى لا تنسى كيف استدعيت على عجل مرة أخرى أوائل عام 1971 للمصنع، فتجد ضابطاً من القوات المسلحة يسأل عن إمكانية توفير كميات كبيرة من المحاليل تحتاجها الحرب الكيماوية.. وأبلغها عن سرية العملية حتى على أقرب الناس إليها.. وأجابت بنعم.. وبقدرتها على ذلك.. وتسلم الجيش العظيم الكمية المطلوبة فى الوقت المحدد!
ناهد يوسف.. ابنة مصر العظيمة.. شاهد وشاهدت كيف كبرت شركة النيل.. وكيف كبرت معها شركات مصر للمستحضرات للعظيم طلعت حرب وكيف تضاعف إنتاجها.. ومعها شركة ممفيس التى تأسست فى الأربعينات ومعهما شركة سيد للأدوية المؤسسة عام ٥٠ وكيف كبرت وتعاظم إنتاجها وأرباحها.. لكنها شهدت أيضاً وبخلاف شركة النيل ولادة شركات الإسكندرية للأدوية والقاهرة للأدوية والشركة العربية للأدوية وشركة العبوات الدوائية وشركة الجمهورية لتجارة الأدوية والكيماويات والمستلزمات الطبية وشركة النصر لصناعة الكيماويات الدوائية والشركة المصرية لتوزيع الأدوية، التى استهدفت توفير الدواء فى كل مكان وعدم العبث بأسعاره من القطاع الخاص.. الذى كان موجوداً ولم يمنع كما يروج البعض!!
ومع ما سبق مركز بحوث الدواء والهيئة العليا للأدوية وغيرها وغيرها بما يستحيل إجماله هنا.. لذا سنكمل الملحمة لنعرف كيف ومتى بدأ تدهور هذا كله ليتبصر صاحب القرار بالتجربة وهو يعيد هذه الأمجاد من جديد.. وثانياً لعل الإعلام ينتبه للدكتورة ناهد متعها الله بالصحة والعافية.. لتروى شهادتها للتاريخ.. ولعل ثالثاً نجد من يكرمها! أفضل من كثيرات يزورن التاريخ نهاراً جهاراً.