رائد صناعة الدواء الأستاذ الدكتور أحمد برهان الدين إسماعيل
فقدت مصر منذ أيام أحد رواد صناعة الدواء فى مصر، كان رئيساً لشركة الدواء الوطنية العربية الدولية شركة إيبكو لفترة أربعين عاماً، كانت أول شركة خاصة تنشأ فى أعقاب فترة الانفتاح فى أواخر السبعينات، وكنا نحن اتحاد المهن الطبية وشركة المهن الطبية للاستثمار من أوائل المساهمين فى هذه الشركة بناء على توصية من الرئيس الباهر أنور السادات الذى نصحنا باستثمار أموال صناديق المعاشات فى النقابات وكانت الشركة العربية للدواء أول إنتاج الشركة العربية للأدوية والمستلزمات الطبية أكديما، والتى كانت مساهمات أربع دول عربية ويرأسها الراحل الكبير الدكتور عبده سلام الذى رشح أحد قيادات الدواء الناجحة فى شركة القاهرة للأدوية (قطاع عام) ليرأس هذه الشركة الجديدة التى كنا نعلق آمالاً كبيرة عليها فى إنتاج الأدوية الجديدة وكسر احتكار شركات الأدوية الأجنبية فى إنتاج الأدوية الجديدة.
أول اختيار لهذه الشركة فى أوائل الثمانينات حين بدأت أن تنتج كان فى مجال علاج البلهارسيا، هذه السبة المرضية التى كانت تصيب أكثر من 60% من سكان مصر، خصوصاً ساكن الريف والقطاع الزراعى المهم فى الناتج القومى، ولم يكن هناك علاج سوى الطرطير المقيئ حقن تعطى بالوريد فى طوابير بالمستشفيات وبحقن زجاجية معقمة أو غير معقمة تنقل الفيروسات الكبدية وغيرها وتعطى نتائج غير أكيدة ثم حدثت مفاجأة علمية كبيرة كان لها أكبر الأثر فى القضاء على المرض وهو اكتشاف دواء برازى كونتيل للقضاء على المرض عن طريق الفم، وقد حاولنا عدة طرق للقضاء على البلهارسيا مثل التوعية وعدم الاستحمام فى مياه الترعة وعدم نزول الفلاح بقدمين عاريتين فى رى الأرض، والنصح بعدم التبول بجوار المياه حتى لا ينقل العدوى للقواقع الوسيط للمرض، واستخدام كبريتات السلفا فى الترع لقتل القواقع، ولم تنجح كل هذه الطرق إنما وجود الدواء بالفم كان له أكبر الأثر فى العلاج الجماعى للمرض وخفض نسبة الإصابة من 60% إلى أقل من 5%.
سعر الدواء الجديد -وهو أربعة أقراص تعطى مرة واحدة أو على مرتين- حددته الشركة بخمسة عشر ماركاً ألمانياً، أحد أصعب العملات فى ذلك الوقت، وفى زيارة لألمانيا نظمها المجلس الأعلى للجامعات لعمداء كليات الطب ونقيب الأطباء للاطلاع على نظام القبول فى كليات الطب الألمانية ونظام التعليم ومحاولة الاستفادة من هذه النظم قام رئيس شركة باير الألمانية العالمية والمخترعة لهذا الدواء بعمل حفل استقبال، وكنت جالساً معه على المائدة الرئيسية وبدأت حواراً معه حول الدواء الجديد لعلاج البلهارسيا، وأردت أن تخفض الشركة سعر الدواء حيث إن ميزانية مصر بأكملها لا تكفى لعلاج المصريين المصابين وكذلك فى بلاد فقيرة أصابها المرض فى أفريقيا وفى أمريكا اللاتينية، وكان رد رئيس الشركة جافاً وحاسماً: «إننى رئيس شركة اقتصادية ونصرف مبالغ كبيرة على الأبحاث وتتوقع الشركة عائداً كبيراً من تحقيق الربح، ولست جمعية خيرية حتى نصرف على الدول الفقيرة، عليكم اللجوء للجهات المانحة لدعم فقراء العالم»، ولم أجد ما أرد به عليه وعدت لمصر وأنا كسير البال حتى فاجأنى المرحوم الدكتور برهان إسماعيل بأن شركة إيبكو التى يرأس مجلس إدارتها قد حصلت على المادة الخام من جهات لا تطبق معاير الملكية الفكرية، وقام بتحليل المادة والاطمئنان إلى امتصاصها فى الدم بالنسبة المطلوبة للفاعلية (Bioavailability) وكذلك ثبات المنتج بالتخزين، وكان من أسعد الأخبار التى سمعتها على مدى شوطى الكبير فى العمل الصحى والدوائى أن الجرعة ستباع بما قيمته جنيهان فقط، وأمكن للدولة التصدى للمرض وعلاج المصابين وغير المصابين (العلاج الجموعى) وكان يتم ذلك فى القرى وأماكن تجمع المصابين مثل المدارس والمصانع والمكاتب الصحية ونجحت على مدى سنوات من العلاج فى كسر وكبح وباء البلهارسيا الذى خسرنا من ورائه مليارات الجنيهات بسبب سوء صحة الفلاح والعامل والإنفاق على المضاعفات التى كان أسوأها أمراض الكبد والفشل الكبدى وسرطان المثانة والفشل الكلوى.
نفس السيناريو تكرر فى منتصف الثمانينات عندما اخترع دواء الأدلات (Nafidipine) وكان يعتبر فتحاً كبيراً فى علاج أمراض القلب وتوسيع الشرايين التاجية وعلاج ضغط الدم، وتبعته سلسلة طويلة من الأدوية المؤثرة فى الدورة الدموية.
الشركة المنتجة تعتمد على الملكية الفكرية وتضمن حقها فى احتكار الدواء لمدة عشرين عاماً ولا ينتج فى أى بلد إلا بعد أخذ الإذن ودفع العمولة (Royalty). نجحت شركة إيبكو فى الحصول على المادة الخام من نفس المصادر العالمية فى بلاد لم توقع على قانون الملكية الفكرية، والتأكد من مطابقة الدواء المنتج من الشركة البديلة من حيث الفاعلية حسب القواعد العلمية وأنتجت الدواء بربع السعر المحدد من الشركة المنتجة للدواء.
مثال آخر، فى أواخر الثمانينات اخترعت شركة أسترا السويدية دواء يوقف إنتاج الحامض المعدى الذى عند زيادته يسبب التقرح للغشاء المعدى والاثنى عشر (قرحة المعدة) ويسمى الدواء (Omebrazole) وكانت نتائجه العلاجية مبهرة، ولكن سعر الدواء كان غالياً فوق المائة جنيه مصرى عندما كان الجنيه باثنين ونصف دولار وكنا فى مشكلة عند كتابة هذا الدواء لفقراء المصريين والأكثر إصابة بمرض قرحة المعدة نتيجة سوء التغذية والتدخين.
استطاعت شركة إيبكو برئاسة المغفور له الدكتور أحمد برهان الدين إسماعيل وعلى مدى ما يقرب من أربعين عاماً، تخفيض سعر الدواء إلى ثلث التكلفة المحددة من الشركة الأجنبية، وهذا قليل مما أنجزته الشركة حيث كانت تنتج 20% من الاستهلاك المحلى، والأولى فى تصدير الدواء المصرى لأكثر من ثلاثين دولة عربية وأفريقيا وأوروبا الشرقية، وأرجو ألا ننسى اسمه أو عطاءه وكان معه نخبة من القيادات المتميزة فى قطاع التسويق والإعلام وتأكيد معايير الجودة، وعندما شعر بأن صحته لا تستطيع تحمل التحديات المقبلة التى تحتاج إلى دم شاب وقيادات جديدة، قدم استقالته من العمل ورشحت شركة أكديما التى تملك أغلبية رأس المال الدكتورة الصيدلانية المتميزة ألفت غراب التى لها تاريخ مشرف فى قيادة شركات الأعمال فى قطاع الدواء والمستلزمات الطبية، رشحت قيادة متألقة وصاحبة أداء متميز وفكر متطور، ويساعدها مجلس إدارة من أفضل قيادات الصحة والدواء وأنا على يقين من التطور والاستمرار فى قبول التحدى والوصول إلى أحسن مستوى فى الإنتاج والأداء وفتح الأسواق للتصدير، وهناك مشروع كبير ومهم فى إنتاج المستحضرات الحيوية التى ينقصنا إنتاج مصرى لمعظمها لاحتياجها إلى خبرات وتجهيزات خاصة وهى ليست بعيدة عن قيادات الدواء المصرية وتشجيع الحكومة برئاسة الدكتور مصطفى مدبولى والدعم المتناهى للصحة والدواء والتعليم من القائد الملهم عبدالفتاح السيسى.
اقتراح أقدمه للأستاذة الدكتورة ألفت غراب رئيسة أكديما بتخصيص جائزة مالية محترمة وشهادة تقدير لرئيس مجلس إدارة شركة الأدوية المصرية التى تتميز بالإنتاج الجيد وإدخال أدوية جديدة وتحسن الأداء فى التصدير وتكون الجائزة باسم الدكتور برهان الدين إسماعيل.
رحم الله الفقيد الكبير وأدخله فسيح جناته، وعوَّض مصر عنه خيراً فى من يشغل موقعه، ولنا جميعاً خالص العزاء ولأسرته الصبر والسلوان.