عناصر القوة والضعف عند أردوغان (2)
سألت مسئولاً عربياً يعرف أردوغان جيداً منذ العام 2000 حتى العام 2017، ما هى أهم عناصر الضعف لدى الرجل؟
أجاب على الفور: أردوغان ليس حالة واحدة، ولا سلوكاً واحداً، فالرجل يمكن تقسيم التغيرات فى حياته إلى مراحل هى:
1- التعليم الأولى والجامعة.
2- التأثر بحركة أربكان.
3- دخول الحزب والانخراط فى السياسة.
4- دخول السجن لكتابته أشعاراً ضد النظام.
5- الوصول لمنصب عمدة إسطنبول والنجاح الكبير.
6- حزب العدالة والتنمية.
7- أول حكومة وتحقيق نجاحات اقتصادية.
الكلام ما زال -كله- للمسئول العربى الذى يضيف «أردوغان هذا هو الإيجابى منذ الصبا حتى النجاح الاقتصادى ورفع معدلات التنمية فى تركيا».
«أردوغان» الذى «أسكره» النجاح، وسيطرت عليه غطرسة «القوة» وأفسده وأفسد عائلته طبقة البيزنس التركية والمال القطرى أصبح أردوغاناً آخر.
ويختتم المسئول العربى: «لقد عرفت فى حياتى أردوغان، ولكن بشخصيتين متناقضتين: الأولى حتى عام 2014، والثانية قبيل وبعد الانقلاب».
من كلام المسئول العربى: «أردوغان الحالى أصبح مصدراً للمتاعب والصدام مع كل من حوله، ونقطة تفجير للمشكلات فى الداخل والخارج، إلى الحد أنه أصبح أكبر عدو لنفسه».
هنا نعود لطرح الشق الثانى من هذه الدراسة المصغرة، وهو إذا عرفنا ما هى عناصر القوة التى يستند عليها الرجل بالأمس، فما هى عناصر ومصادر الضعف التى تهدد حاضره ومستقبله القريب؟
يمكن إجمال عناصر الضعف على النحو التالى:
أولاً: تدهور الاقتصاد
إذا كانت معدلات تقدم الاقتصاد الكلى التركى هى إحدى أهم دعائم قوة أردوغان وحزبه، فإن التدهور الاقتصادى الحالى هو أحد أهم عناصر الضعف والخطر التى تهدد الرجل.
ثانياً: ورث حزب العدالة والتنمية فلسفة وشعبية ومعدلات النجاح الاقتصادى لعهد وحزب الرفاه الذى قاده نجم الدين أربكان.
كانت هناك مجموعة من العقول والوجوه الشابة «المتضامنة المؤتلفة قلوبهم» من رجالات الحزب: «رجب طيب أردوغان، أحمد داوود أوغلو، مُنظر ومهندس الحزب، عبدالله جول، رجل السياسة والاقتصاد، الهادئ ذو الخبرة العربية، على بابا جان، الماهر فى التفاوض السياسى»، هذه المجموعة هى «نواة نهضة الحزب».
هذه المجموعة قامت عليها طفرة السنوات السبع فى حياة الحزب، وحياة تركيا المعاصرة.
ثم حدث التحول فى السلوك السياسى لأردوغان، الذى «أصابته أزمة الرغبة فى الانفراد بالقرار وإلغاء شركائه فى الحكم، والتأثر بمصالح العائلة أكثر من مصالح الحزب والوطن.
نتج عن ذلك خروج جول، وأوغلو، وبابا جان وأكثر من 90 قيادياً فى الحزب، وإعلانهم بشكل واضح معارضتهم لزعامة أردوغان وسياساته الانفرادية، وانغماسه وانغماس الدائرة الضيقة التى تحيط به فى الفساد المالى والسعى لتحقيق مصالح خاصة وتغليبها على مصالح الوطن.
من هنا دعا داوود أوغلو إلى إنشاء حزب «المستقبل» المنشق عن العدالة والتنمية، وأسس على بابا جان حزب «الديمقراطية والتقدم».
وآخر الانشقاقات عن الحزب الحاكم، هو ما أعلنه 17 عضواً قيادياً فى الحزب عن رفضهم لسياسة الحزب الحالية وتقديمهم للاستقالة والانضمام لحزب «أوغلو» الجديد.
وتتوقع مراكز الأبحاث التركية أنه فى حالة إجراء انتخابات نيابية ورئاسية الأسبوع المقبل فإن أردوغان وحزبه سوف يفقدون -بالتأكيد- الأغلبية المطلقة فى المدن الحاسمة ذات دوائر التأثير والكتل الانتخابية فى أنقرة، وإسطنبول، وأزمير، وسوف يتهدد مركز الحزب التقليدى فى مناطق الأناضول المحافظة.
ثالثاً: علاقات أردوغان المضطربة عالمياً:
لم يحظ زعيم سياسى فى العقود الثلاثة الماضية بنصيب الأسد فى إثارة المتاعب، والاشتباك السياسى، والصدام الشخصى مع أهم زعامات العالم مثلما حظى رجب طيب أردوغان.
اصطدم أردوغان بكل من:
أنجيلا ميركل، ماكرون، بوريس جونسون، فلاديمير بوتين، وهاجم كلاً من رؤساء حكومات إيطاليا، هولندا، النرويج، وأساء إلى حكام مصر، السعودية، الإمارات، وشن هجوماً قاسياً على الناتو، والاتحاد الأوروبى، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التضامن الإسلامى، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولى والنظام السياسى الأمريكى.
وانتقد أردوغان بشكل سافر غير مسبوق السياسات الداخلية لدول ذات سيادة، مثل: السودان، الجزائر، تونس، مصر، ليبيا، سوريا، لبنان، فلسطين، إسرائيل، اليونان، قبرص، إيطاليا، هولندا، النرويج، الدنمارك، ألمانيا، الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات.
ودون الدخول فى تفاصيل ووقائع هذه الأزمات إلا أنه من المستحيل أن يعادى شخص واحد كل هذه الدول، ويهاجم كل هذه الزعامات، ويتدخل بشكل مؤذٍ فى سياسات كل هذه الدول دون أن يخلق ذلك بيئة معادية له، وتم تصنيفه على أنه أكبر مصدر للمتاعب فى العصر الحديث!
علاقة أردوغان بالمؤسسة العسكرية التركية هى مصدر توتر وتهديد دائم.
وسوف يسجل التاريخ أنه إذا كان مصطفى كمال أتاتورك هو مؤسس الفكر الكمالى العلمانى القائم على إعطاء سلطة استثنائية عابرة للسلطات الثلاث (التنفيذية - التشريعية - القضائية) فى تركيا منذ العام 1923، فإن رجب طيب أردوغان هو الذى أنهى هذه السلطة وضربها عام 2017 تحت دعوى «إجراءات مواجهة الانقلاب».
العلاقة بين أردوغان وحزبه والجيش هى علاقة تصادم.
ومنذ صبيحة اليوم التالى لمحاولة الانقلاب فإن أردوغان يقوم بإجراءات إقصاء الجنرالات أصحاب الفكر الكمالى، واستبدالهم بآخرين من الموالين له، ولحزبه، ولفكر الإسلام السياسى.
والتعديلات الأخيرة تأتى فى توقيت حساس، حيث هناك «تمدد توسعى غير مسبوق للجيش التركى خارج أراضيه فى كردستان العراق، وإدلب سوريا، وغرب ليبيا، وقواعد عسكرية فى مدغشقر، وجيبوتى، والصومال وقطر».
تعدد الجبهات، وتعدد مراكز القيادة والسيطرة، وتمدد خطوط الإمداد والتموين، هى من الأمور المقلقة والمرهقة لأى قيادة عمليات وهيئة أركان أى جيش من الجيوش.
ومن الثابت اليوم، أنه لا يوجد أى جيش من جيوش الدول الخمس الكبار، ولا أى حلف عسكرى على ظهر كوكب الأرض يحارب، فى ذات الوقت، على عدد الجبهات التى يحارب عليها الجيش التركى الآن!
وإذا كان أردوغان يسعى لتسويق العمليات العسكرية على أن ظاهرها أمنى عسكرى إلا أن باطنها هو تأمين مكاسب اقتصادية وتحقيق سيطرة على موارد نفط وغاز، وفرض مشروعات إعمار وبناء وفتح أسواق جديدة للمنتجات الرأسمالية والشركات التركية، فإن ذلك كله يجعل أى قيادة عسكرية تركية فى حالة «توتر وقلق» استراتيجى.
علاقة أردوغان بالإسلام السياسى قد تخدمه لدى جمهوره فى الداخل، لكنها بالتأكيد لم ولن تخدمه فى:
1- إقناع الاتحاد الأوروبى بقبول عضويته.
2- اصطدامه المباشر مع حكومات أوروبا التى تمر الآن بحالة من سيادة نفوذ وصول الأحزاب الشعبوية اليمينية المتشددة، وهى خصم سياسى له ولأفكاره.
3 - بدء حدوث تحول فى مواقف العديد من الدول تجاه التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين:
مثل روسيا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، إيطاليا.
مما يجعل احتضانه للإخوان على الأراضى التركية مصدر متاعب لبلاده مع هذه الدول.
ذلك كله يضع أردوغان فى موقف التآكل من الداخل التركى والضعف من الأطراف، إلا أن الإشكالية الكبرى هى أن مشكلته فى الرأس، نعم رأس أردوغان نفسه، الذى انفلت وأصبح خارج السيطرة، حتى على أكبر «صانعيه ومؤيديه» فى واشنطن وحلف الأطلنطى وحزبه الحاكم.
قد يبدو للوهلة الأولى أن سياسة القوة التى يتبعها أردوغان هى تعبير عن قوة صاعدة لكنها -لمن يفهم بعمق- هى إشارات انتحار سياسى لرجل لم يفهم حدود قوته!
يعيش أردوغان الآن «خريف حكمه السياسى» فورقة «القوة» الاقتصادية التى كان يستند عليها تتلاشى، حسب المؤشرات الأخيرة.
تقول المؤشرات «الرسمية» إن إجمالى الدين العام على تركيا قد بلغ 240 مليار دولار حتى نهاية مايو الماضى، بحيث أصبح كل طفل جديد يولد مديناً بحوالى 20 ألف ليرة تركية (الدولار تجاوز السبع ليرات).
فقدت الليرة التركية 40٪ من قيمتها خلال عامين، وتتهم المعارضة حكم أردوغان بضياع نصف تريليون ليرة فى المغامرات الخارجية والفساد وسوء الإدارة.
انخفض رأس المال الأجنبى فى البورصة التركية بمقدار النصف، وتحتل البلاد المرتبة رقم 14 من حيث أعلى نسب التضخم من بين 205 دول من دول العالم.
وأصبحت تكاليف الحياة والأسعار والخدمات مرتفعة بشكل طارد للسياحة والاستثمار، بعدما كانت الأسعار المنخفضة فى تركيا نقطة جذب.
العنصر الثانى فى اقتراب «خريف أردوغان» هو حالة «التذمر والقلاقل الاجتماعية السياسية» بسبب سياسة الاستبداد والبطش ضد المعارضين.
وبناء على بيان رسمى وعلنى لوزير الداخلية الحالى سليمان صويلو، فإن السلطات فى تركيا قامت منذ محاولة الانقلاب 2016 حتى الشهر الماضى باحتجاز 282 ألفاً و790 شخصاً وحبس 94 ألفاً و974 آخرين. وأوضح أن وزارته شنت 90 ألفاً و66 حملة أمنية، وأن عدد «السجناء» الحالى يبلغ 25 ألفاً و912 شخصاً.
وأوضح وزير الداخلية التركى أن السلطات قامت بعزل أو طرد 150 ألفاً من موظفى الحكومة وأفراد الجيش والشرطة.
ما سبق هو إحصاءات الاقتصاد الرسمية، وأرقام الوضع الأمنى الرسمية التركية، أما أرقام المعارضة فهى تزيد على ذلك بكثير لكننا نكتفى هنا بالأرقام.
العنصر الثالث فى خريف أردوغان هو ما نتج عن اجتماع أردوغان مع مجلس الشورى العسكرى الأعلى الذى عقد يوم الخميس الماضى، وأعلن بعد هذا الاجتماع الإطاحة بـ30 جنرالاً من قيادات الجيش وترقية 17 من أتباعه، كما تمت ترقية 51 عقيداً عاماً للمرتبة الأعلى، وتم تمديد عمل 294 عقيداً إلى عامين، وتم تفسير ذلك بأنها إجراءات تشديد القبضة على المؤسسة العسكرية.
بناء على ما سبق فى استشعار الرجل للتحديات الاقتصادية، والسياسية، والأمنية يهرب أردوغان إلى البحث عن الحلول، من خلال ممارسة سياسة قرصنة بحرية للغاز، وإجحاف مائى لمياه العراق وسوريا، وسيطرة على ولايات عثمانية قديمة، واستنزاف أموال الصندوقين السياديين لقطر وليبيا.
حل الأزمات عند أردوغان فى الخارج والمنطقة وليس فى الداخل.
حينما يصبح اللاعب أكبر من حدود اللعبة يسقط!
وحينما يصبح اللاعب مصدر إزعاج للجميع، يجتمع الجميع عليه كى يتخلصوا منه!
وحينما يعتقد اللاعب، أى لاعب، أن قوته الذاتية، حتى لو كان نابليون أو هتلر، أقوى من مجموع قوى أعدائه، ينكسر عسكرياً.
كل من لم يعرف سقف حدود قوته واصطدم بالعالم، انهزم وسقط سقوطاً مدوياً.
أهم عناصر ضعف أردوغان، هى أردوغان نفسه.