حروب الجواسيس من حماس إلى إيران

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

هروب أحد عناصر حماس المنتمين إلى قوة بحرية مقاتلة تابعة للحركة منذ عشرة أيام إلى إسرائيل قبل اعتقاله بوقت قصير أعاد تسليط الضوء على مستوى الأمن فى حركة حماس ومدى الاختراق الذى تتعرض له من خلال جواسيس تم زرعهم فى مفاصلها ومؤسساتها المختلفة.

وقبل يومين تم اعتقال مسئول آخر له صلة مباشرة بشبكة الاتصالات السرية المؤمنة شكلاً والتابعة للحركة بتهمة التجسس على كتائب القسام الجناح العسكرى للحركة لصالح إسرائيل منذ العام 2009. وخطورة موقع الرجل المعتقل أنه دائم الاطلاع على كافة المعلومات السرية الخاصة بالحركة، وقادتها السياسيين والعسكريين، ما يشكل اختراقاً أمنياً كبيراً.

الأمر ذاته يمكن قوله بالنسبة لمستوى الأمن فى إيران على ضوء التفجيرات الكبرى التى حدثت خلال الأسبوعين الماضيين، سواء فى معسكرات تابعة للحرس الثورى أو منشأة نتانز النووية التى تضررت كثيراً بفعل الانفجار الغامض. والمشترك بين الحالتين أنهما تتعلقان باختراقات خارجية كبرى تنتج عنها أضرار هائلة، وترتبط بوجود عناصر تم استقطابها للعمل لصالح إسرائيل فى حالة حماس، ولصالح جهات معادية فى حالة إيران غالباً تتضمن كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل معاً. وبعض هذه العناصر العميلة يقوم بأعمال ميدانية مباشرة، كزرع عبوات ناسفة، أو اختراق أجهزة الحاسوب وتغيير شفراتها، أو زرع فيروسات إلكترونية تسمح بانتقال المعلومات إلى جهات خارجية، وسرقة وثائق مهمة.

التجسس بين الأطراف المتصارعة أمر معتاد تاريخياً، والقيام بإجراءات للحد من آثار عمليات التجسس المعادية يمثل موقفاً طبيعياً ومطلوباً. ولحماس جواسيس تم اكتشافهم من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فى أوقات سابقة. والأجدر هو أن يتم منع عمليات التجسس أصلاً، إلا أن الحادث هو أن نسبة من عمليات التجسس تنجح فى الوصول إلى أهدافها بدون أن يتم اكتشافها. وفى حالة حماس تؤدى المعلومات التى يوفرها الجواسيس، سواء كانوا تابعين لحماس أو لغيرها من الفصائل، إلى تمكين إسرائيل من القيام بعمليات نوعية كقتل بعض القيادات العسكرية أو السياسية، ومنع حماس من القيام بعمليات ضد إسرائيل وجنودها. وفى السنوات العشر الماضية تكرر اعتقال حماس للعديد من العناصر التى اتهمت بالتجسس لصالح العدو الإسرائيلى، وكثير منهم تم إعدامه كما حصل فى أعوام 2011 و2014 و2017. وفى كل مرة كانت حماس تعد بإعادة هيكلة أجهزتها الأمنية والاستخبارية وسد الثغرات التى قد يستفيد منها العدو، ولكنها تُفاجأ بعد حين باكتشاف خلايا وعناصر تجسس جديدة، ما يعنى فشل ما تم اتخاذه من قرارات وجهود سابقة، بما فى ذلك جهودها ذات الطابع الدينى ودعوات التوبة للعناصر المارقة، التى يتم تكثيفها خلال شهر رمضان المبارك تحديداً.

والمحيطون بحماس يبررون سقوط مجموعات تلو مجموعات من عناصرها فى فخ الجاسوسية لصالح إسرائيل كنتيجة للضغوط المعيشية والحياة الصعبة التى يمر بها القطاع، وتستغله أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لتجنيد جواسيس أو خداع البعض لجمع المعلومات الدقيقة عن تحركات حماس وقياداتها السياسية والعسكرية. وهو تبرير وإن حمل بعضاً من الحقيقة بالنسبة للغزاويين البسطاء، لكنه لا يفسر لماذا يسقط بعض عناصر حماس نفسها فى التجسس عليها، ولا ينفى مسئوليتها المباشرة عن وصول الأحوال المعيشية للقطاع بأسره إلى هذا المستوى المتدنى، نتيجة إصرارها على الانفراد بحكم القطاع وعدم التجاوب مع كل محاولات المصالحة الوطنية، واعتمادها على دعم مالى قطرى مشروط لا يمر إلا بواسطة إسرائيل، ما يضرب فى تماسك الحركة ويضعف من شعاراتها أمام أهل القطاع ككل.

اكتشاف خلية تجسس ينتمى أعضاؤها إلى مفاصل مهمة وقيادية فى الحركة هو إنذار مهم يستدعى من قيادة حماس أسلوباً جديداً من المعالجة، يبعد عن الإنكار أو النفى أو وصف الأمر بالشائعات المضللة أو الاستهزاء بدعوات المراجعة والعودة إلى طريق المصالحة. فالمعلومات المتاحة والدقيقة لا يمكن تجاوزها بمثل هذه الأساليب البالية. المطلوب مراجعة هيكلية وسياسية حقيقية وشاملة، ووضع المصلحة الفلسطينية فوق كل اعتبار.

وبالرغم من الفارق الكبير بين إيران كدولة ذات مؤسسات ومصادر دخل مستقلة رغم تعرضها للعقوبات الأمريكية، وبين حركة حماس المُحاصرة فى القطاع ومحدودة الموارد، فإن أسلوب التغاضى وتجاهل الدلالات الحقيقية والمؤلمة فيما حدث على مدى أسبوعين من انفجارات متعمدة طالت منشآت نووية مهمة ويفترض أنها محصنة أمنياً، ومواقع تخص الحرس الثورى الإيرانى، يكشف عن مدى الحرج الذى أصاب المؤسسات الأمنية الإيرانية، حيث ظهر ضعفها واهتراؤها، وتعرضها للاختراق الممنهج مادياً وإلكترونياً. وفى يناير 2018 كشف نتنياهو عن عملية نوعية قام بها الموساد فى العمق الإيرانى، حيث توصل إلى أرشيف سرى للبرنامج النووى الإيرانى، وقام بسرقته والخروج به إلى إسرائيل، التى وظفت بعض معلوماته فى إظهار خطورة البرنامج النووى الإيرانى حسب القناعات الإسرائيلية، وبررت به مهمتها الرئيسية فى إضعاف القدرات النووية الإيرانية كأولوية لا تراجع عنها مهما كلف الأمر.

لم تأخذ إيران هذه العملية النوعية على محمل الجد، وتظاهرت بأنها دعاية إسرائيلية لا أكثر ولا أقل. والظاهر أن هذا النوع من خفض أهمية الاختراق الأمنى، كرسالة موجهة للداخل الإيرانى، لم يرافقه دراسة الدلالات العميقة لسرقة أرشيف يخص برنامجاً يفترض أنه مُؤمن بأعلى الأساليب وأكثرها دقة. وتشير التفجيرات التى تمت فى معسكرات للحرس الثورى الإيرانى بأنها تمت بحيث لا تؤدى إلى خسائر كبيرة فى الأرواح ولكنها تحدث خسائر مادية كبرى، وبالنسبة لمنشأة نتانز النووية فقد تمت الانفجارات بحيث لا تؤدى إلى تسرب إشعاعى، ولكنها تخرب المنشأة تخريباً دقيقاً، وتمنع عملها لسنوات عديدة حتى إذا تم إصلاحها، ومن ثم يتحقق تعطيل مباشر وحاسم فى دورة البرنامج النووى الإيرانى، وهو الهدف المُعلن أمريكياً وإسرائيلياً.

تقارير أمريكية كشفت أن تحليل صور الأقمار الاصطناعية لموقع نتانز بعد تفجيره تكشف غالباً عن وضع مواد ناسفة فى زوايا ومواقع محددة بحيث تحقق أكبر دمار ممكن بدون تسرب إشعاعى، وهو أمر اعتمد على معلومات دقيقة وأيضاً تعاون عناصر بشرية من داخل المنشأة النووية. وفى حال ثبوت تلك المعلومات، فإن مستوى الاختراق الأمنى الإيرانى يكون غير مسبوق، ولا ينفع معه إغماض العيون.

وفى كل الأحوال فإن هذه العمليات النوعية تدل على أن إدارة الصراعات والأزمات من خلال التجسس واقتناص المعلومات الدقيقة والعمليات النوعية التى يصعب تحديد القائم بها دون الوصول إلى مستوى الحرب المباشرة، ستكون أسلوباً شائعاً بين إسرائيل وخصومها.