الجزائر تنزع الشرعية عن «السراج» وحكومته

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

موقف جديد ومحترم للجزائر تجاه التطورات الليبية. تصريحات الرئيس عبدالمجيد تبون لقناة فرانس 24 قبل أربعة أيام تضمنت مزيجاً من مبادئ تمسكت بها الجزائر سابقاً، تمثلت فى رفض التدخلات الأجنبية والاستعداد لاستضافة حوار ليبى - ليبى لإنهاء الأزمة، والوقوف على مسافة واحدة من طرفى الصراع. أما الجديد وفقاً لتصريحات الرئيس تبون فهو أن حكومة السراج تجاوزتها الأمور وضرورة العودة إلى القاعدة الشعبية لاختيار مجلس رئاسى جديد ومؤسسات سياسية يقبلها الشعب، والأهم هو التحذير من أن الصراع فى ليبيا بات يماثل الصراع فى سوريا، فالأطراف التى تحارب هناك هى نفسها التى تحارب فى ليبيا، ما يجعل الجزائر تخشى تحول الجارة الشقيقة إلى النموذج الصومالى، إذا ما قررت قبائل ليبيا حمل السلاح والمشاركة فى الصراع مباشرة، وفى كل الأحوال ثمة خشية من أن تتحول ليبيا إلى ملاذ لكل الإرهابيين فى العالم، ما يهدد الأمن الجزائرى.

وبالرغم من عدم الإشارة صراحة إلى الاحتلال التركى لليبيا والتخطيط للبقاء فيها إلى الأبد، حسب قول وزير الدفاع التركى أثناء زيارته لقاعدة الوطية الجوية جنوب طرابلس، قبل يومين من تدميرها بواسطة طائرات الجيش الوطنى الليبى، فإن مجمل الرؤية الجزائرية باتت تدرك حجم المخاطر الأمنية للبلاد النابعة من تحول ليبيا إلى دولة محتلة مليئة بأقذر العناصر الإرهابية الممولة من قطر وتركيا، والتى تعمل الآن لحساب أنقرة وأردوغان شخصياً، ولكنها أيضاً تحمل أوهام إقامة دولة خاصة بها على غرار ما كان فى العراق وسوريا، تحت مسمى دولة الخلافة، المعروفة إعلاماً بدولة «داعش».

جوهر الموقف الجزائرى على هذا النحو يقترب كثيراً من الموقف المصرى، الذى طالب مراراً وتكراراً بوقف التدخلات التركية ومنع وصول الإرهابيين إلى الأراضى الليبية، ومحاكمة مسئولى أنقرة الداعمين للإرهاب العالمى، ودعم كل المحاولات والمبادرات الدولية لحل الأزمة عبر الحوار بين كل الأطراف الليبية، وتفكيك الميليشيات وبناء مؤسسات دولة ذات سيادة، وآخرها مقررات مؤتمر برلين 19 يناير الماضى، التى وضعت إطاراً شاملاً لحظر السلاح وانتقال العناصر الإرهابية ومراقبة الشواطئ الليبية، وإطاراً مفصلاً لعملية سياسية تراعى قرارات الأمم المتحدة، وهى الأساس الذى قام عليه إعلان القاهرة 6 يونيو الماضى، وتضمن إعادة تشكيل المجلس الرئاسى، بحيث يمثل ليبيا وكل مكوناتها المناطقية، والشروع فى توحيد الجيش على أسس قانونية ووطنية.

هذا الاقتراب الجزائرى الجديد يمثل فرصة أكبر للضغط على حكومة السراج العميلة، التى تحميها ميليشيات إرهابية ومرتزقة لا يقبل بهم إلا داعم لاحتلال بلاده ونهب مواردها. كما يدعم أيضاً الجهود التى بُذلت من قبل بين دول الجوار الليبى، التى تشكل ضمانة عربية وإقليمية حقيقية للحفاظ على وحدة ليبيا وسيادتها، شريطة أن يتخلى حكام طرابلس عن أوهام قابلية بلادهم للاحتلال التركى إلى ما لا نهاية. ومعروف أن الجزائر عضو فاعل فى حوار دول الجوار مع كل من مصر وتونس، وكانت قد بادرت بعد مشاركة الرئيس تبون فى مؤتمر برلين بعشرة أيام بدعوة أطراف النزاع الليبى للحوار فى الجزائر لتطبيق مقررات برلين، ولكن حكومة السراج هى التى امتنعت عن قبول الدعوة وتمسكت بذريعة أنها لا تعترف بالطرف الآخر. ومع ذلك ظلت الجزائر تنادى بالحوار الليبى/ الليبى، والتمسك بمبدأ الحياد بين الأطراف الليبية، وعدم قبول التورط فى النزاع، حسب قول الرئيس تبون نفسه. وكررت الأمر مطلع يونيو الماضى، فى وقت بدأت فيه ملامح الغزو التركى لليبيا تبدو صارخة وتتعارض كلياً مع قيم التحرر الوطنى، التى بنيت عليها الدولة الجزائرية وتمثل لكل جزائرى جانباً مهماً من منظومته القيمية، ومكوناً رئيسياً من جيناته السياسية والفكرية.

عدة تقارير نُشرت خاصة فى الصحافة الفرنسية فى الأشهر الماضية أعطت مؤشراً على عدم رضاء المؤسسات الأمنية الجزائرية بالتدخل التركى فى ليبيا، حيث قدمت تحذيرات مهمة حول المخاطر والتهديدات التى يمكن أن تتعرض لها الجزائر فى حال استمر وجود الإرهابيين السوريين المدعومين من أنقرة فى الغرب الليبى، وأوصت بأن يكون للجزائر موقف واضح وصريح لرفض ما تقوم به تركيا، ومساعدة الليبيين على استعادة سيادتهم واستقلالهم والحفاظ على وحدة أراضيهم. وقد زادت أهمية تلك التحذيرات فى ضوء عثور الجيش الجزائرى على أربعة مخازن كبيرة من الأسلحة صناعة تركية مخبأة بالقرب من الحدود مع ليبيا قبل أسبوعين.

وفقاً للرئيس تبون فى حواره المشار إليه أن بلاده تتشارك مع الموقف الفرنسى مما يجرى فى ليبيا ومع موقف الأصدقاء الإيطاليين. وكلا الموقفين يناهض، وإن بدرجات مختلفة، الدور التخريبى الذى تلعبه أنقرة فى ليبيا. ففرنسا تجاهر علناً بمعارضة كل ما تقوم به تركيا فى ليبيا، لاسيما تصدير السلاح والإرهابيين واستغلال عضويتها فى الناتو وعدم التزامها بمقررات برلين التى شارك فيها أردوغان شخصياً، وكان ما فعله أن ضرب بعرض الحائط كل تلك المقررات، وبات يتحدث عما يعتبره حق تركيا فى ليبيا واستعادة استعمارها كما فعل الأجداد من قبل، حسب زعمه، ومتناسياً أن الليبيين قاوموا هذا الاحتلال ورفضوه، كما قاوموا الاحتلال الإيطالى الذى تسلم ليبيا من الدولة العثمانية وفق اتفاقات استعمارية بغيضة.

إن البجاحة التى يتحدث بها الرئيس التركى عن بقاء قواته إلى الأبد فى ليبيا والتخطيط لما يجب أن تكون عليه الحكومة الليبية، ومن يشارك ومن يختفى من المشهد السياسى، ومن يكون رئيساً للمخابرات الليبية ومن يكون وزيراً للداخلية، وخطط العمليات العسكرية ناحية الشرق الليبى تديرها أنقرة مباشرة، والاتفاق مع حكومة السراج العميلة على إقامة قاعدتين تركيتين بحرية وجوية فى عمق الأراضى الليبية وبالقرب من الحدود مع الجزائر، فضلاً عن اتفاق سابق حول ترسيم الحدود البحرية أعطى لأنقرة حقوقاً غير قانونية فى مياه البحر المتوسط، كل ذلك من شأنه أن يثير المخاوف للأمن الإقليمى ككل. ولن تكون الجزائر بمنأى عن تلك المخاطر.

ولعل الموقف الجزائرى الجديد الذى نزع الشرعية عن حكومة السراج، ويرفض وجود مرتزقة وعملاء وخونة يديرون المشهد الليبى، وأسقط كل حجج تركيا الواهية للتوغل والتوطن فى الأراضى الليبية هو رد أولى على تلك النزعة الاستعمارية التركية، التى تعيد المنطقة مئات السنين إلى الوراء. ولا شك أنه خطوة جيدة يجب تقديرها، ونأمل البناء عليها عملياً بالتشاور والتنسيق مع كل القوى الإقليمية التى ترفض وتعارض صراحة التدخل التركى، وفى المقدمة مصر.