سد النهضة.. التزام مصرى ومساومات إثيوبية تزيد التوتر
لا يمكن اعتبار ما جرى خلال السنوات الماضية بشأن سد النهضة نوعاً من أنواع التفاوض المتعارف عليها، حيث لم تتوافر شروط التفاوض الذى يؤدى إلى اتفاق يحقق أكبر قدر من المصالح للأطراف المتفاوضة، مع الحفاظ على علاقات طيبة أثناء وبعد انتهاء عملية التفاوض والتصديق على النتائج.
راهنت إثيوبيا على «المساومة» واعتبرتها الوسيلة للفوز بكل ما تريد وظنت واهمة أن بإمكانها فرض إرادتها فى ظل افتراض حسن النوايا الذى اعتمد عليه المفاوض المصرى، وهو ما لم يثبت تأثيره فى تغيير الموقف الإثيوبى على مدار خمس سنوات منذ توقيع اتفاق المبادئ بالخرطوم.
الحقيقة أن المفاوضات التى شاركت فيها كل من مصر وإثيوبيا استمرت على مدار تسع سنوات منذ إعلان «أديس أبابا» عن بناء السد عام 2011 وقبل التوقيع على الاتفاق.
لم تكن الحكومة الإثيوبية على قدر المسئولية ولم تستوعب خطورة ما تقوم به وتصرفت بما لا يتناسب وأهمية الموضوع محل التفاوض وكثيراً ما انسحبت فى اللحظات الأخيرة وقبل التوقيع على أى اتفاق فى تصرف لا يجوز أن يصدر عن دولة وحكومة تمثل الطرف الذى تتعلق به مشكلة تمس حياة ملايين الأشخاص فى دولتين وتربطه قواعد أقرها المجتمع الدولى للتعامل مع مثل هذه الحالات.
ميثاق الأمم المتحدة فى فصله السادس، المعنون بالتسوية السلمية لحل المنازعات، أقر فى المادة «33» الفقرة الأولى بأنه «يجب على كل أطراف أى نزاع من شأن استمراره أن يعرّض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر أن يلتمسوا حله بطريق المفاوضة، والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو عن طريق اللجوء إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التى يقع عليها اختيارها»، وهو ما التزمت به مصر حرفياً.
حرصت مصر على إبداء حسن النوايا من خلال توقيع «اتفاق المبادئ»، فى الوقت الذى خيّبت «أديس أبابا» كل التوقعات وأحبطت نوايا المصريين الطيبة تجاهها، ومارست كل صنوف التعنّت، وتعمَّد الجانب الإثيوبى تعطيل المفاوضات، ورفض جميع الأطروحات والمقترحات المصرية لحل الخلافات، وتحولت المسألة إلى نوع من المراوغة وإضاعة الوقت، حتى أتم بناء السد، وفرض الأمر الواقع على كل من مصر والسودان.
لا يمكن اعتبار ما جرى خلال السنوات الماضية نوعاً من أنواع التفاوض، فهو يندرج تحت بند المساومة بحسب الممارسات الإثيوبية، فالمفاوضة مفهوم قائم بذاته، يختلف شكلاً وموضوعاً عن المساومة، ولا يجب الخلط بين العمليتين والتعامل معهما على أنهما مسألة واحدة، التسوية بالمفاوضة سرعان ما تتحول إلى المساومة فى كثير من القضايا، ومن الوارد أيضاً أن تبدأ التسوية بالمساومة والتى يستطيع الطرف الآخر أن يحولها إلى عملية تفاوضية مستخدماً مهارة مفاوضيه أو ما يملكه من مقومات تتيح له تلك الفرصة وتسمح بذلك التحول.
أغلب المفاوضات السياسية تعد مساومات، وهو المنطق الذى تعاملت به إثيوبيا، حيث إن المفاوضات عادةً ما تتم بين طرفين أو أكثر، فيما تبقى المساومة عملية يملى طرف إرادته فيها على الطرف الآخر.
ذهنية المفاوض الإثيوبى لم تتقدم خطوة واحدة نحو التفاوض من أجل الوصول إلى الاتفاق المنشود، وبقيت فى منطق المساومة فى ظل مفاهيم تتعلق بمصالحه والتى اعتبرها متعارضة بدرجة كبيرة مع المصريين، محاولاً استخدام أساليب قسرية، أو اقتراب الانتهاء من أعمال الإنشاء كورقة ضغط لحمل الطرف الآخر على الإذعان لمطالبه والخروج منتصراً من عملية لا تصلح لها مثل تلك النهاية.
وفى الوقت الذى حرص فيه الجانب المصرى على التهدئة وضبط الإيقاع الإعلامى صعّدت إثيوبيا من الهجوم والتهديد فى أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من مسئول بما يوحى أن إثيوبيا تتمتع بدرجة أكبر من القوة.
أسوأ رسائل المساومة حملت بما لا يدع مجالاً للشك أن الحبشة لا تحتاج للاحتفاظ بعلاقات طيبة ومستمرة لفترة طويلة مع أى من أطراف الأزمة، ووصل الأمر إلى الاشتباكات العسكرية المحدودة مع السودان داخل أراضيها.
كما عكست حالة من عدم الثقة المتبادلة على غير أسس، ورغم تحمل الجانب المصرى لكل التجاوزات الإثيوبية والبدء باتفاق المبادئ الذى لم تحلم بتوقيعه أصلاً ووفر لها الفرصة لإنشاء السد، فى مقابل الحفاظ على الحقوق التاريخية لمصر فى مياه النيل، وهو ما لم تظهر إثيوبيا أى نوايا للإقرار به حتى اللحظة.
تحولت العملية برمتها إلى مفاوضات ممتدة، غايتها الإبقاء على الوضع الراهن، واعتمدت استراتيجية «الهروب فى اللحظة الأخيرة» قبل التوقيع، وهو ما حدث فى مفاوضات واشنطن التى تمت برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولى.
التفاوض لا ينتج طرفاً رابحاً وآخر خاسراً، وهو عملية تهدف إلى السلام والاستقرار فى العلاقات الدولية، وتهدف لحل الصراع وتجنب استخدام القوة من أجل تنمية العلاقات المتبادلة استناداً إلى ما يجمع بين الدول والشعوب من مصالح مشتركة.
افتقرت إثيوبيا ومفاوضوها استراتيجيات التفاوض، ولم تعمل من الأساس على فكرة خروج رابحين من العملية، وحرصت على الفوز بكل ما تريد، وهو ما أفسد سنوات طويلة وأضاع الوقت الذى كان هدفاً إثيوبياً من البداية.
لم تقدم إثيوبيا أى تنازلات، كما أنها لم تأخذ حاجات الأطراف الأخرى فى الحسبان، ولم تدرك أهمية مبدأ الأخذ والعطاء فى المفاوضات بنفس القدر الذى أغفلت عمداً أن المستقبل لا ينتهى عند تقديم تنازلات تحفظ أمن المنطقة وحقوق الآخرين التى أقرتها المواثيق والأعراف الدولية.
أمام مصر وقت ضيق للغاية فى ظل الإصرار الإثيوبى على بدء عملية ملء السد خلال الأيام القادمة حتى إن لم تتوصل إلى اتفاق مع الجانب المصرى، وهو ما سيخلق نقطة صراع وبؤرة توتر فى منطقة تعج بالصراعات العسكرية ولا يعرف الاستقرار لها طريقاً.
المجتمع الدولى ومؤسساته «مجلس الأمن» لا بد لها من تدخل سريع، وكذلك الدول الكبرى، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبى، الذى غاب عن المشهد منذ اندلاع الأزمة، لعل موقفها مجتمعة يفلح فى إجبار «أديس أبابا» على احترام التزاماتها قبل أن يشهد العالم «حروب الماء» بشكل مبكر وإن لم تترجم إلى تحركات على الأرض.