رحيل ظاهرة كونية
لم أعد أتذكر متى اكتشفت ما يخصنى فى روايات الأديب الكولومبى العظيم جابرييل جارثيا ماركيز، الذى رحل ليلة الخميس الماضى عن عمر يناهز 87 عاماً.. لقد تعرفت على أعماله بعد سنوات قليلة من حصوله على «نوبل للآداب» عام 1982، ولكننى آنذاك لم أتمكن أبداً من قراءة روايته الشهيرة «مائة عام من العزلة» التى طبقت شهرتها الآفاق، واستندت عليها بالأساس الأكاديمية السويدية عند منحه جائزة نوبل، وظللت لسنوات أخجل من الاعتراف بأننى أجد صعوبة بالغة فى قراءة هذه الرواية بسبب طبيعتها المحيرة فى خلط وعجن الواقع مع التخيلات والأساطير الغريبة، حتى يستحيل على قارئ مثلى -آنذاك- أن يضع حداً فاصلاً بين «السحرى» و«الواقعى»، أو أن يستمتع بمثل هذا اللون من الكتابة الإبداعية.
وما زلت أذكر حالة الفرح التى انتابتنى عندما قرأت حواراً مع الأديب المصرى الفذ الدكتور يوسف إدريس، اعترف فيه بأنه لم يتمكن حتى الآن -عام 1990 تقريباً- من استكمال قراءة بعض الكتب الشهيرة مثل «رأس المال» لماركس، و«مائة عام من العزلة» لماركيز، وأنه يعتبر روايات ماركيز الأخرى مثل «خريف البطريرك» و«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» و«الحب فى زمن الكوليرا»، أكثر جمالاً وإمتاعاً من روايته الأشهر «مائة عام من العزلة»، وكم كان «إدريس» رائعاً وملهماً وهو يعلّم الجميع درساً فى القدرة على التحرر من الادعاء، والتوقف عن الركض فى أثر القطيع، وإعلان ما تؤمن به حتى لو كان مختلفاً تماماً عما يؤمن به الآخرون، ويعتبرونه من المسلّمات.
بعد اعتراف يوسف إدريس فى حواره، انفتحت أمامى عوالم «ماركيز» المدهشة فى أعماله الروائية وقصصه القصيرة وكتبه الأخرى، بل وفى مقالاته البديعة التى اجتهد قراصنة النشر العرب فى جمعها وإصدارها فى كتب كثيرة، فإذا بى أمام ظاهرة إبداعية كونية شديدة البساطة وشديدة التوحش فى آن واحد، رائقة وصافية مثل نبع طاهر، وهادرة وعاصفة مثل شلال ينهمر من ظلام التاريخ وعذاب الإنسان، وإذا بالأديب العالمى، الذى تحوّل بعد شهرته من صعلوك جائع إلى صديق مقرب من معظم رؤساء بلاد أمريكا اللاتينية، لا يعثر على وهج الإلهام إلا فى دماء الشعوب المتخثرة تحت أظافر هؤلاء الجنرالات القساة، ولا يحلّق عالياً بإبداعه إلا وهو يتأمل مصائر الأقوياء، وقد تحولوا إلى كائنات مرمية من ذاكرة الأحياء، تعيش من بيع أثاثها الثمين ونياشين الانتصارات الزائفة.
عندما قرأت «الحب فى زمن الكوليرا» لأول مرة، لم أتوقف عند أسطورة الوفاء للحب الأول التى أذهلت كثيرين، وأدهشتنى، وما زالت تدهشنى حتى الآن، هذه الذاكرة الجبارة لأديب موهوب، لديه قدرة فذة على توثيق تاريخ «التصوير الفوتوغرافى» فى مدينة كولومبية، وعلى تاريخ وسائل النقل، والعقاقير الطبية، وعمارة البيوت، وتطور وسائل القتل والتعذيب، وتاريخ وحالات الطقس والأشجار والطيور والحيوانات، لا تقل متعة عن قدرته الفذة على التقاط وتثبيت أعقد حالات الإنسان الوجدانية فى الحب والكره، والشرف والدناءة، والوفاء والغدر.
هذا رجل قرر ذات يوم أن يكون أديباً، ومن الوهلة الأولى أدرك أنه لا يوجد شىء -فى الكتابة- أهم من شىء آخر، فلقد كتب عن «شاكيرا»، المطربة والراقصة والأنثى، التى تحب سبعة رجال فى وقت واحد، بشغف لا يقل روعة عما كتبه عن الزعيم الكوبى «فيدل كاسترو»، وكتب عن حوادث الموت فى «الأسانسير» بنفس الأسى والحزن والفجيعة التى تلمسها فى كتاباته عن الحروب الأهلية والمجاعات والعذابات الإنسانية الكبرى.
مساء الخميس الماضى رحل «ماركيز».. ولكنه قبل أيام من رحيله ترك رسالة لمحبيه قال فيها -من بين ما قال: «تعلمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر.. فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف». إن هذه الحكمة البسيطة والملهمة لن تتحول أبداً إلى سلوك إنسانى نبيل إلا عندما يعود القساة والأجلاف إلى أعمال «ماركيز» ويطالعون بأنفسهم كيف ينمو عفن القسوة والجلافة ويتوحش بداخلهم وهو يلتهم -فى بطء وتلذذ- آخر ما تبقى لديهم من كبرياء وهم يعانون «عزلة» صنعوها بأيديهم.