العالم بين «كورونا» وحرب النفط

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

الهبوط الكبير فى بورصات دول الخليج وبلدان كبرى فى آسيا كاليابان وهونج كونج وكوريا وغيرها، يعيد إلى الأذهان ذكريات مريرة مر بها الاقتصاد العالمى فى العام 2008. الانخفاضات المتتالية فى بورصات الخليج جاءت نتيجة هبوط أسعار النفط لتصل إلى 30 أو 32 دولاراً للبرميل، بعد أن كان السعر قبل أزمة «كورونا» فى الصين ثم فى معظم بلدان العالم يلامس الـ70 دولاراً للبرميل الواحد، ما يعنى أن الهبوط فى السعر يقارب الخمسين فى المائة، وإذا استمر الوضع على هذا المنوال فقد ينخفض إلى أقل من 20 دولاراً وفقاً لتوقعات مصادر قريبة من منظمة أوبك، وهو ما يمثل كارثة كبرى لكل الاقتصادات الخليجية وغيرها التى يعتمد اقتصادها على تصدير النفط، ويوفر لها ما يقارب الـ80 أو الـ90٪ من الدخل العام. العنصر الأبرز هنا سيضرب بقوة الموازنات العامة، وسيؤدى إلى تراجع برامج التنمية، ويرفع نسب البطالة المحلية، وتراجع الأموال المخصصة لدعم الدول الفقيرة، ويزيد من مسببات التوتر الاجتماعى فى أكثر من بلد، يستوى فى ذلك الغنى والفقير.

تأثير عامل انتشار فيروس كورونا يبدو حاسماً، ليس فقط بالنسبة للصين، بل للعالم كله. فحجم العلاقات التجارية العالمية المتراجع، وحركة السفر بين البلدان الآخذة فى التوقف، ومستويات التصنيع فى الصين وفى البلدان الأوروبية ودول آسيا التى تعتمد صناعاتها على مكونات صينية التى هبطت بمستويات تتراوح بين 8 و15٪، محققة خسائر هائلة ترجمت نفسها فى انخفاض البورصات بنسب تصل إلى 9٪ قبل يومين، فى مؤشر على فداحة الوضع الاقتصادى العالمى، وبدء مرحلة من عدم اليقين فى مجال تشغيل الاستثمارات القائمة، والتردد الشديد فى الإقدام على استثمارات جديدة. وما يزيد الوضع قتامة أن التوصل إلى علاج فعال للفيروس ولقاح مضمون يتطلب عدة أشهر أخرى، سوف يزداد فيها القلق العالمى والكل يترقب كيف ستكون القرارات والسياسات الجديدة لمواجهة تلك المحنة.

النتيجة المباشرة لهذه التراجعات الحادة، المصحوبة بقرارات العديد من الدول بمنع سفر مواطنيها وإغلاق حدودها أمام القادمين من دول عديدة كإجراء احترازى، ترجمت نفسها فى انخفاض الطلب العالمى على النفط، ما دفع منظمة أوبك وحلفاءها من خارج المنظمة، لا سيما روسيا، إلى بحث خفض الإنتاج ليصل إلى 2 مليون برميل يومياً، أى زيادة نصف مليون برميل عن ما كان متفقاً عليه فى الأعوام الثلاثة الماضية والمعروف باسم اتفاق «أوبك بلاس»، وهو ما عارضته روسيا، وبدلاً من ثبات الاتفاق السابق، بدأت دول نفطية كبرى فى عدم الالتزام بنسب الخفض وأطلقت العنان لطاقتها الإنتاجية، كالمملكة العربية السعودية التى رفعت الإنتاج لحدود 12 مليون برميل يومياً، وتوفير النفط لبلدان آسيا والولايات المتحدة وأوروبا بأسعار مخفضة تراوحت بين 6 دولارات و8 دولارات للبرميل الواحد، وردت روسيا بالمثل بزيادة الإنتاج إلى الحد الأقصى، ودول نفطية أخرى فى داخل «أوبك» وخارجها، فزاد المعروض فى ظل انخفاض الطلب، وبالتالى هبط السعر ويُرجح أن يستمر الانخفاض فترة أخرى، ما لم يتفق المنتجون الكبار على ضبط مستويات الإنتاج، بما يناسب التوصل إلى سعر متوازن لبرميل النفط فى هذه المرحلة العصيبة التى يمر بها الاقتصاد العالمى.

بيع النفط بأسعار أقل قد يجلب مؤقتاً المزيد من الأموال فى حالة توافر قدرات إنتاجية عالية، ولكنه لن يكون بلا ثمن. فكل الدول التى تنافس على البدء باستثمارات كبرى فى مجالى النفط والغاز عليها أن تراقب الوضع بأكبر قدر من الحذر، فشركة أرامكو السعودية، هذا العملاق النفطى الجبار، الذى تم تقييمه عند طرحه فى البورصة بتريليونى دولار، فقدت فى الأيام الثلاثة الماضية ما يقرب من 235 مليار دولار من قيمتها السوقية، وانخفضت قيمتها إلى نحو 1.4 تريليون دولار. وينطبق الحال على كبريات الشركات النفطية كشل والنفط البريطانية وإكسون وغيرها، كما فقدت الشركات الكبرى فى مجال الإلكترونيات والاتصالات ما يقرب من 14٪ من قيمتها السوقية. والأمر مرشح لمزيد من الهبوط إذا ما تعثرت جهود احتواء فيروس كورونا فى الشهرين المقبلين.

بعض المراقبين يرى أن الموقف الروسى فى رفض الالتزام باتفاق خفض الإنتاج مع منظمة أوبك له صلة بالعقوبات الأمريكية التى فُرضت على عدد من المؤسسات والشركات الروسية ومن بينها «روزنفط» الروسية العملاقة، وأن تعمُّد «موسكو» لزيادة المعروض وأسعار أقل هدفه الرد على تلك العقوبات التى أدت إلى تعثر أحد أهم المشروعات النفطية وإنتاج الغاز الروسى والمتمثل فى خط أنبوب الشمال المتجه إلى أوروبا، وذلك بتوجيه ضربة قاصمة لصناعة النفط الصخرى الأمريكى، والتى كانت تعطى أفضلية للولايات المتحدة من حيث توفير إنتاج نفطى محلى يسهم فى زيادة الاحتياطى النفطى من جانب، وعدم اللجوء إلى الاستيراد من جانب آخر. فزيادة المعروض النفطى وانخفاض الأسعار إلى أقل من 30 دولاراً يجعل تكلفة إنتاج البرميل من النفط الصخرى غير مجدية، وهى التى تفوق 34 دولاراً فى التشغيل، وأكثر من 38 دولاراً مع حساب المصروفات الاستثمارية. ومن ثم كان إنتاج هذا النوع من النفط مجدياً فى ظل أسعار تلامس الستين دولاراً للبرميل الواحد أو أكثر، ولكنه لم يعد كذلك فى ظل الوضع النفطى العالمى الجديد. وتظهر البيانات الأمريكية أن عدد منصات إنتاج النفط الصخرى قد انخفضت بالفعل، وإذا استمر الوضع النفطى الراهن بعض الوقت فسوف تتوقف تلك المنصات عن الإنتاج لعدم الجدوى.

لكن توجيه روسيا ضربة للنفط الصخرى الأمريكى على النحو السابق ليس بالمجان، فهناك أثمان سوف تدفعها روسيا، فأياً كان حجم الزيادة فى إنتاجها النفطى مع تراجع الأسعار بشدة، فسيكون هناك انخفاض حتمى فى الموارد العامة، وهو ما بدأت مؤشراته الأولى فى انخفاض سعر الروبل الروسى أمام العملات الأجنبية بنسب تراوحت بين 3 و7٪، ويرجح أن يحدث انخفاض آخر مع استمرار حالة اللا يقين وغياب الثقة فى قدرة الاقتصاد الدولى على التعافى فى غضون أشهر محدودة، ما دامت أزمة فيروس كورونا غير قابلة للسيطرة. فرغم أن البيانات الصحية الصينية تكشف عن تراجع فى نسب الإصابة والوفاة الناتجة عن المرض، لكنها فى دول أخرى ككوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا تكشف عن ارتفاع نسب الإصابة وليس تراجعها. وهكذا لم تعد أزمة «كورونا» صحية وحسب، بل اقتصادية عالمية بامتياز.