مهرجانات آه.. خمور وحشيش لأ!
يقول أحدهم: وراء كل كلمة «منع» بدائل عجزوا عن تطبيقها، وبالبلدى المنع هو أسهل طريق لـ«ترييح الدماغ»، فلماذا نبذل مجهوداً فى التفكير والتحليل والبحث عن الحلول طالما نملك ورقة ندون بها الأسماء وقلماً للتوقيع على قرار الإيقاف، و«برنتر» لطباعته وتعميمه، ونعلن إخلاء مسئوليتنا، وعلى الجهات المعنية تنفيذ القرار.
هكذا يُدار الفن والإبداع، فى ظل مشهد بائس ملىء بالمهرجانات المضرّة بالصحة، التى تؤثر على الأعضاء، وأولهم أعضاء النقابة، التى قرر نقيبها إخلاء مسئوليته، وإيقاف مطربى المهرجانات ومنعهم من الغناء فى الحفلات، حفاظاً على الذوق العام، وكأنهم هبطوا ليلة «الفلانتين» على استاد القاهرة، قادمين من المريخ أو زحل. وكأن النقيب لم يكن يعلم بالحفل مسبقاً، فلماذا نتهرّب من المسئولية؟!.. ولماذا نعتقد أن حل المشكلة فى كام مداخلة على كام قرار على كام تصريح صحفى، وبعدين ربنا يسهل؟.
وحتى نتحدّث من أرضية مشتركة، دعونا نُرسى قاعدة: «الفن إبداع والابتذال مرفوض والحكم للجمهور، والممنوع مرغوب»، الناس وحدهم هم أصحاب القرار، وبلغة السوق «المستهلك»، وبلغة الفن «السميعة»، وبلغة الإبداع «المتذوقون»، وبلغة المهرجانات «مئات الملايين من المتابعين والمشاهدات على يوتيوب وفيس بوك وتويتر»، يحرصون على سماع وتحميل كل جديد فى هذا العالم، ويحفظونه عن ظهر قلب، ويرددونه فى الأفراح وأعياد الميلاد، وخلال تسكعهم فى أندية البلاى ستيشن والمقاهى، وفى رحلة الـ«توك توك» من أول الشارع إلى آخره، وفى رحلاتهم المدرسية، والخطوبة وكتب الكتاب، وسهرات الحنة والزفاف، فكيف السبيل إلى المنع؟.
إذاً ما المشكلة بالتحديد؟، هل الكلمات «الوحشة والخارجة وقليلة الأدب» التى تُحشى بها المهرجانات، ويوزعها فيجو الدخلاوى، فتصل إلى أمخاخ الملايين، أم الأصوات النشاز المعدّلة تكنولوجياً حتى تمشى مع مزاج الكلمات فتلعلع وتصهلل وتصل إلى كل مكان، أم أن المشكلة فى هذا العالم الموازى البعيد عن أذرع النقابة ولائحتها؟، أم أنها فى سيطرة أشباح المهرجانات على عالم الحفلات والأفراح والطهور وكتب الكتاب، فتأثر سوق الرومانسيين وأيقونات الحب فى التسعينات، أين المشكلة بالتحديد لكى نبدأ فى حلها أو تحجيمها فى أسوأ الأحوال.
هل الأزمة فى الكلمات مثل الخمور والحشيش، طب يا سيدى ما منيرة المهدية قالت: «مستنظراك ليلة التلات بعد العشا، تلقى الحكاية موضبة، بإيدى قايدة الكهربا، وأقعد معاك على هواك ولا فيش هناك، غيرنا وبلاش كتر الخشا»، فماذا كانت تقصد السلطانة؟، سؤال بجد «إيه اللى هيحصل يوم التلات بعد العشا؟»، لكن للأمانة الست حذرت وقالت بعدها مباشرة: «إوعى تسهينى بقى، واحنا فى عز النغنغة، وتمد إيد وهزار يزيد، عارفاك أكيد، إيدك تحب الزغزغة»، وعتابى عليها لماذا تجلس أساساً مع شخص توقن أنه «يحب الزغزغة».
ولا أدرى هل هو نفس الشخص الذى وجهت إليه الست نعيمة المصرية، دعوة صريحة وقالت له: «تعالى يا شاطر.. نروح القناطر، هاودنى ودينك ما تكسر لى خاطر»، حتى هذه اللحظة يمكن فهم الموضوع فى «خروجة حلوة»، إلا أن الست فاجأتنا: «هات القزازة واقعد لاعبنى، دى المزّة طازة والحال عاجبنى»، لا كده يا ست ممكن تتوقفى عن الغناء وتتمنعى من أى حفلة، قزازة ومزّة والحال عاجبك..!!، طبعاً لو وصلنا لاعتبارها أن «حبه عبادة»، فممكن يبقى ازدراء أديان كمان.!
أحمد عدوية حُكم عليه بالحبس مع إيقاف التنفيذ وغرامة مالية بسبب أغنية «لابس جبة وقفطان»، التى غنّاها فى أحد كازينوهات شارع الهرم فى الثمانينات، رغم أن الأغنية قديمة، غنّتها بهية المحلاوية وبعدها آخرون، وتقول كلماتها: «لابس جبة وقفطان، وعامل لى بتاع نسوان، ماشى فى العتبة الخضرا، ولابس لى كاكولة خضرة، ومحندقها ومحزقها»، هذه الكلمات وُصفت بأنها مبتذلة. إلا أن سيد مكاوى كان مُبهجاً وهو يردّدها على العود.
المشكلة الحقيقية فى مسألة المهرجانات هى ببساطة أننا نجهل المشكلة، ولا تحاول إقناعى مجملاً المشهد، مبسطاً المسألة، فتردّد أن المشكلة فى الكلمات، واللهم احفظنا «الألفاظ»، فاللغة بين الشباب تغيّرت، ومؤلفو المهرجانات لم يخترعوا كلمات من خيالهم، لأن مشكلتهم أساساً الخيال الفقير، هم واقعيون لدرجة زعلتنا جميعاً، أو كما يُقال «جَت على الجرح»، كلماتهم يفهمها المجتمع الذى نعيش بجواره، يعيها ويدركها ويفهم مفرداتها ودلالاتها، ويمكن تصنيفها ضمن لغة الشارع الذى هجرناه، و«الحكم» التى تزين التكاتك والميكروباصات والتروسيكلات أيضاً، ويقتبسها مثقفو الإنترنت لتزيين بروفايلاتهم على «فيس بوك»، هى لغة تلخص كثيراً من الجُمل المنمّقة المنتقية من أمهات الكتب والنظريات، لغة بديلة للصالونات الثقافية المغلقة، والندوات النقاشية «اللى على الضيق»، والكتب التى تزين الرفوف فى المعارض.
ويبقى السؤال، ما التشخيص السليم حتى نبدأ العلاج؟، وما حجم تلك المشكلة؟.. أعتقد أن لدينا من الخبراء واللجان والجهات ما يكفى لعقد جلسات استماع وعصف ذهنى للتفكير فى المشكلة ودراستها بالتعاون مع خبراء التكنولوجيا والاقتصاد والمثقفين والكتاب، وأدعو من يهمه الأمر إلى عقد لجنة دائمة تضم فى عضويتها خبراء لدراسة الظاهرة وتحليلها، والوصول إلى أفضل الطرق أولاً للاستفادة منها ومن انتشارها السريع، ليس على مستوى مصر فقط، بل العالم العربى أيضاً، وكيف يمكن تنظيم المسألة وضبطها بحيث لا نمنعها ولا نصل إلى حد الابتذال.
وفى النهاية نترك للناس الحق فى الاختيار، أو كما قال «الفاجومى»: «السامعين أدرى، والسامعين أشتات، زى النغم مقامات، قسم وغنى وهات، وإملا المكان خضره، بالفن والقدرة». وأضيف «الإبداع» فى الحلول أيضاً.