«ترامب» و«نتنياهو»
هل تخيل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ومعاونوه أن خطته الجديدة للسلام ستلقى تأييداً وترحيباً شعبياً عربياً، أو قبولاً مشوباً بالحذر، أو على أقل تقدير موقفاً محايداً؟ المؤكد أن الإجابة عن هذه الاستفسارات كلها تؤكد أنهم لا يعتقدون بذلك، والسبب بسيط جداً، أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة فى تعاملها مع ملفات وقضايا عدة، لا تنظر للشعوب ولا تضعها فى حسبانها أو تقديراتها.
فى تقديرى أن التعامل الأمريكى يستند دوماً على فرض الأمور بالقوة، وفى حالتنا الحالية، هم يخططون، وقد أشاروا بالفعل، إلى عقوبات وإجراءات منتظرة ضد الفلسطينيين، لو تعاملوا بسلبية مع الخطة الجديدة التى أعلنوها، وبالقطع هم خططوا أيضاً لضغوط من أنواع مختلفة مع كل ثقل عربى، كل حسب مشكلاته، لتوظيفها فى دفع الأطراف المختلفة للقبول، أو على الأقل لعدم المعارضة.
مسألة الضغوط أحياناً تؤتى ثمارها، ولكنها لا تستمر إلى نهاية المشوار، فالمتغيرات فى العالم متلاحقة وسريعة، ويترتب عليها أحياناً تعديل وتبديل وإسقاط بعض الضغوط أو التراجع عنها، ولذلك تبدو القدرة على إظهار الصلابة فى مواجهة هذه الضغوط لفترات ربما تتيح الفرصة للنجاة من بعض مستهدفاتها.
المسألة ليست فقط فى الضغوط، إنما واحدة من تجليات الرؤى الأمريكية، التعامل مع الملفات والقضايا فى إطار الرؤى اللحظية، وعدم الاهتمام بمستقبلياتها، وهى رؤية نفعية بالدرجة الأولى، أن تنتهى من لحظة، مهما كانت نتائجها، من أجل البناء على لحظة جديدة.
إذاً نحن أمام أطروحات رغم ما يحيط بها من أجواء تعمل على تضخيمها، إلا أنها فعلاً أطروحات اللحظة وليست رؤية للمستقبل والتعامل معه، وإنما محاولة الضغط بوسائل مختلفة من أجل خطف لحظة، تحقق مكسباً ولو ضئيلاً.
ظنى أن توقيت طرح الخطة الأمريكية الجديدة يرتبط بمكسب سياسى وثيق الصلة برائدى الخطة، دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، اللذين يواجهان واقعاً سياسياً مؤلماً ومحرجاً، يهدد مستقبلهما معاً، كل فى بلده وأمام ناخبيه، وخطة مثل هذه ربما يراها البعض من معسكرى الرئيسين قناة مهمة لتجاوز المأزق السياسى، من خلال جذب الأنصار، ومغازلة الحلفاء، فى الدفع بهما للعودة مجدداً للحياة.
التقديرات للخطة الجدية متنوعة ومتعددة، ومنها مثلاً التقاط واحدة من أقوى لحظات الضعف العربى، وانشغال كل بلد بكميات مذهلة من المشكلات الداخلية، المُهددة لتماسك بنيانه الوطنى، بل وهشاشة الأمن الإقليمى بكامله، للضغط على الفلسطينيين من ناحية، واستغلال الانشغال العربى لإضعاف القوى المساندة للفلسطينيين، بما يتيح تحقيق اختراق عميق لملف الصراع، وينتقل به إلى مكانة مختلفة. ربما تجربة مماثلة -مع الفارق- قادها الرئيس الراحل أنور السادات، حقق بها اختراقاً للملف، بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، استرد بمقتضاها الأرض المصرية المحتلة، لكن الأهم فى الرؤية الدولية كان نجاحه فى الانتقال بملف الصراع من الحل العسكرى إلى الحل السياسى السلمى من وقتها وحتى الآن.
توازن القوى فى الشرق الأوسط وقتها بين مصر وإسرائيل أتاح هذا الانتقال، وظل توازن أدوات القوى بين البلدين هو الإطار الجامع لاستمرار الاتفاق، وظنى أنه فى غياب هذا التوازن ما كان ممكناً توقيع الاتفاقية، أو استمرارها، وهو واحد من المؤشرات المهمة لتقييم مسيرة ومستقبل خطة السلام الأمريكية الجديدة.
فالواقع يقول إن التوازن الإقليمى فى أكثر لحظاته اختلالاً، لأسباب عدة، ولا يمكن الاستناد لمعادلة توازن طرف واحد مع الجانب الثانى للمعادلة، فالطرح الجديد يتحدث عن ما يسميه رؤية شاملة، تتجاوز الملف الفلسطينى - الإسرائيلى، إلى تعامل إقليمى شامل لا يقتصر على الدول المحيطة بإسرائيل، وإنما يمتد إلى الدول الإسلامية كلها.
الشاهد أن إجماعاً عربياً رسمياً برفض الخطة الأمريكية قد تحقق، استجابة لطلب فلسطينى فى اجتماع وزراء الخارجية الأخير، رغم أن دقة الرفض فى البيان الختامى لا تتطابق مع مرونة الطرح فى كلمات رؤساء الوفود العربية، فإن البيان الختامى على الأقل يعكس موقفاً يُمكن استناد الفلسطينيين عليه فى تعاملاتهم الدولية.
والحاصل أن خطة السلام الأمريكية لم تنجح فى تحقيق استقطاب دولى، بدليل البيانات الفردية أو الجماعية التى صدرت عن القارة الأوروبية بدولها ومؤسساتها الإقليمية، والتى وجهت انتقادات عدة مؤثرة للخطة، بما يقلل من فاعليتها وتوقع إمكانية تحققها على المدى القريب أو حتى المدى البعيد.
إذاً نحن أمام موقف يصب كله فى الملعب الفلسطينى، الذى انتقلت الكرة إلى صفوف دولته ومؤسساتها المختلفة، وأصبح هو فرس الرهان فى التعامل مع الخطة الأمريكية، وهو يواجه خيارات عدة، ويمتلك أدوات أكثر، وتحديات أكثر وأهمها أن الحل العسكرى لم يعد متاحاً، والحل السياسى المطروح ليس ملائماً، والبادى أن قدرة الفلسطينيين هى أداة استمرار خطة السلام أو سقوطها.
ليس مهماً أن نرفع الصوت، ولكن أن نسهم بدعم الموقف الفلسطينى لتكوين سياج حامٍ، فى مواجهة أعاصير من الضغوط ستتوالى، وأن يفهم القادة الفلسطينيون أننا أمام تحدٍ حقيقى، لا يستلزم يحيا ويسقط، وإنما رؤية وتعامل.