"الوطن" تواصل نشر الاستقصاء التاريخي: سيد قطب.. الإرهابى على مشارف المشنقة

"الوطن" تواصل نشر الاستقصاء التاريخي: سيد قطب.. الإرهابى على مشارف المشنقة
- سيد قطب
- جمال عبدالناصر
- نكسة ٦٧
- إعدام سيد قطب العقيد شمس بدران الرئيس السادات
- سيد قطب
- جمال عبدالناصر
- نكسة ٦٧
- إعدام سيد قطب العقيد شمس بدران الرئيس السادات
واحد من أعقد الجوانب فى قضية تنظيم ٦٥، التى تواصل «الوطن» نشر الاستقصاء التاريخى حولها من واقع أوراقها، هو النحو الذى أديرت عليه القضية برمتها قانونياً.
من أول المعلومات التى أتيحت عن «التنظيم» لمكتب العقيد شمس بدران، ثم باقتسام المباحث الجنائية العسكرية مع المباحث العامة، مسئولية تعقب الخلايا المرتبطة ببعضها البعض داخل هذا الكيان، الذى بدا وكأنه انبثق بغتة من العدم.
وصولاً إلى تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا مع «قطب» ورفاقه، والتى شكلت القوام الأكبر من أسانيد المحكمة فى الحكم الذى أصدره الفريق أول محمد فؤاد الدجوى، بإعدام «قطب» وستة من رفاقه.
حيثيات حكم الإعدام اعتبرت "التنظيم" جزءاً من إرهاب جماعة الإخوان الممتد منذ اغتيال "الخازندار والنقراشى" ومحاولة قتل "عبدالناصر"
ورغم تخفيف الأحكام من الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، ليقتصر الإعدام على سيد قطب ويوسف هواش وعبدالفتاح إسماعيل، فإن اللغط الذى أثاره «الإخوان» تاريخياً حول هذه القضية بكل ملابساتها ما زال هو المعتمد على النطاق الشعبى الأوسع، بل فى نطاق الطبقات المتعلمة والمثقفة. ومن هنا يتشكّل الجانب الضبابى الأكبر فى مسألة سيد قطب، من أولها إلى آخرها، فقد تم إعدامه فى ظروف بالغة الحساسية، لم تلبث مصر بعدها بعام أن دخلت فى نكسة ٦٧، لتنخرط بعدها فى نوبة مراجعات ضخمة غيّرت مسار كل شىء.
ثم بصورة مفاجئة، مات «ناصر» وجاء «السادات»، الذى عقد تحالفاً درامياً مع الإسلاميين، انتهى به شهيداً مضرجاً فى دمائه على أيديهم.
ومن ثم لم يُدلِ أى طرف بدلوه فى مروية سيد قطب ولطميتها الكبرى سوى الإخوان المسلمين، بكل ما ساقوه بخصوصها من أساطير وتفاصيل، كلها على لامنطقيتها، مدحوضة بالصور والوثائق. ففى تسجيل ذائع الصيت للشيخ عبدالحميد كشك، ينوح الرجل على سيد قطب، الذى لم يسمح له القاضى بشرب الماء أثناء المحاكمة، ولم يسمح له بالجلوس، بينما من أشهر صور المحاكمة هى صورة سيد قطب يشرب الماء جالساً داخل القفص، مبتسماً ببذلته وهندامه الكامل.
المحكمة أفردت فصلاً كاملاً لمؤلفات "قطب".. وأوردت مقاطع تحث على الصدام مع الدولة والمجتمع
ليست لدينا بالطبع تفاصيل جازمة حول طبيعة ما تعرّض له كل أفراد «التنظيم» أثناء عمليات الاستجواب من قِبَل المباحث العسكرية، لكن تحقيقات النيابة سجلت التفاصيل، بما فيها حديث زينب الغزالى عن تعرّضها للتعذيب. وهو ما تطرّقت إليه هيئة المحكمة فى حيثيات حكمها فى ما بعد، على ما سنرى بعد قليل.
إلا أن المسار القانونى للقضية ككل ظل مثار لغط لدى جماعة الإخوان المسلمين، فى إطار التشتيت المعلوماتى والفلسفى والقيمى الذى فرضوه على جوانب «حدوتة» هذا «التنظيم».
بحيث يجبُن أى كاتب، أو محقق، أو مدقق، عن ألا يتناول هذه القضية بوصفها قضية إعدام «المفكر الشهيد» بعد تعذيبه هو ورفاقه الأبرياء. ولربما تحضرنى هنا من مذكرات العلامة الأكبر والأشهر فى تاريخ الجماعة، الدكتور يوسف القرضاوى، الذى أفرد لسيد قطب وتنظيمه مساحة كبيرة فى مذكراته (الجزء الثالث تحديداً)، التى حملت عنوان «ابن القرية والكتاب».
فرغم عدم تمكن «القرضاوى» من الإفلات من توصيف أفكار سيد قطب بالتوصيف الفقهى التقنى الذى لا جدال فيه بأنها «تنضح بالتكفير»، وأنها ضيّقت خياراتها الفقهية، وخالفت إجماع العلماء، بل تطاولت على عشرات منهم، يسهب «القرضاوى» فى إيراد أسمائهم، لاستعراض أوزانهم العلمية فى مقابل سيد قطب، وطرحه المنفرد، إلا أنه -ضمن تناقضاته المتعدّدة فى الباب الذى تناول فيه سيرة سيد قطب- يقول صراحة إن القاضى الذى حاكم سيد قطب ليس فى ثقافته، وليس بمقدوره أن يستوعب أفكاره، وأن يجاريه، وأن يحاكمه عليها.
يقول «القرضاوى» نصاً: «ورأينا اللواء فؤاد الدجوى يحاكم سيد قطب، فإن من العجب حقاً أن يحاكم رجل عسكرى، مهما تكن خبرته ومعرفته، رجلاً فى حجم سيد قطب، الأديب الناقد العالم الداعية المفكر». لأجل هذه الفقرة تحديداً من مذكرات «القرضاوى»، بما تمثله ويمثله صاحبها من حضور هائل فى وجدان جماعة الإخوان، اضطررت إلى فحص حيثيات الفريق أول محمد فؤاد الدجوى، وهيئة محكمة نيابة أمن الدولة العليا مراراً وتكراراً. فالمحاكمات ذات الطابع الخاص، كثيراً ما تحوطها الشبهات ويثار حولها القيل والقال.
عندما ناقشت المحكمة متهمين باختلاس المواد الناسفة من عهدتهم أقروا بأخذها فى فخر مؤكدين أنها ليست سرقة لأنها من أموال المسلمين
لكن المفاجأة -لى على الأقل- كانت فى الجهد القانونى الفائق الذى بذلته المحكمة التى تولت هذه القضية المعقّدة ذات الخلايا والأجنحة والفصائل المتباعدة عن بعضها البعض. وقد أسست المحكمة فلسفتها فى تصنيف المراحل الجنائية للقضية على ضوء المفاهيم الثلاثة: الشروع والاتفاق الجنائى والمحاولة. واستعرضت المفاهيم الثلاثة، وضاهت بينها وبين ممارسات ومخططات «التنظيم»، وأفردت ردوداً مسهبة على الدفوع التى أبداها المحامون. بل تُسهب المحكمة فى إيراد المراجع القانونية التى تولت تعريف مثل هذه المصطلحات، وتقارن بينها فى محاولة جادة لإحكام الخناق على «التنظيم». ففى حيثيات الحكم التى أوردتها على مدار قرابة ١٥٠ صفحة، جهد واضح فى تقصى تفاصيل «التنظيم» وتصنيف الأفعال، وتسكينها فى خاناتها القانونية، ثم فى نوبة أخذ ورد تبدو كما لو كانت تفكيراً بصوت عالٍ مع الذات، أو حوار مع طرف مشكك سيأتى فى ما بعد.
بدأت المحكمة حيثيات حكمها بإيراد الملابسات التى تم بموجبها ضبط كل خلية من خلايا «التنظيم»، ثم بإيراد الأحراز والمضبوطات من أموال وسلاح وذخائر وكتب. ثم أفردت المحكمة لمؤلفات سيد قطب فصلاً كاملاً، تقتطف منها وتورد مقاطع مختلفة، تحث على الصدام مع الدولة والمجتمع، وتطرح أفكار التكفير والحاكمية، التى غلّفت كتابه الأشهر «معالم فى الطريق». وبدا أن المحكمة تشير إلى المعتقدات التى يتشاركها أفراد «التنظيم»، استناداً إلى أفكار قائده ومرشده الروحى، وكأنها توطئ للمصير الذى ستسوق إليه من يعتنقون هذه الأفكار. أو كأنها تستعرض الهول المقيم فى نفوس وعقول هؤلاء، فيكون من الطبيعى إدراك قسوة الأحكام التى ستنزل بهم.
فعلى سبيل المثال، تحمل الصفحة رقم ٢١، من ملف حيثيات المحكمة هذه الوقفة مع كتابات «قطب». وتورد الحيثيات الآتية:
«فى الصفحة ٢٣ من (معالم فى الطريق)، يقول: ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلى، والتصورات الجاهلية، والتقاليد الجاهلية، والقيادة الجاهلية، فى خاصة نفوسنا. ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلى، ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة -صفة الجاهلية- غير قابل لأن نصطلح معه. إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولاً، لنغير هذا المجتمع أخيراً. إن مهمتنا الأولى هى تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هى تغيير هذا الواقع الجاهلى من أساسه. هذا الواقع الذى يصطدم اصطداماً سياسياً بالمنهج الإسلامى وبالتصور الإسلامى، الذى يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهى أن نعيش».
الشيخ عبداللطيف السبكى أجهز فقهياً على أطروحات زعيم "التنظيم"..ووصفه بـ"إنسان مسرف فى التشاؤم وينظر إلى الدنيا بمنظار أسود"
وعلى مدار عشر صفحات كاملة، تشير المحكمة إلى اقتباسات متعدّدة من كتابات سيد قطب تشى بأنها بذلت جهداً حقيقياً فى قراءتها وفرزها وفهمها وفهم منطلقات وعقائد هذا الرجل الستينى الذى يقود عشرات الشباب إلى حتفهم المحتوم. بل لعل المحكمة استندت إلى طلب وكيل نيابة أمن الدولة العليا، صلاح نصار، تقريراً رسمياً من لجنة الفتوى بالأزهر الشريف حول أفكار سيد قطب بمقياس الشريعة وعلومها، التى يتمترس الرجل خلفها. وقد تلقت النيابة تقريراً فقهياً من رئيس لجنة الفتوى حينها، وهو الشيخ محمد عبداللطيف السبكى، قال فيه بعدما أجهز فقهياً على أطروحة «قطب»: «إنه إنسان مسرف فى التشاؤم، وينظر إلى الدنيا بمنظار أسود، ويصورها للناس كما يراها هو، أو أسود مما يراها».
ثم تتطرّق المحكمة إلى أماكن التدريبات، التى شهدت تمرينات المصارعة اليابانية واستخدام السلاح وضرب النار. ثم تشير إلى المنشورات السرية التى كتبها «قطب» بنفسه وشكلت معالم الطريق الذى صاغ الرجل عقائده فى نفوس عشرات الشباب من الإخوان المسلمين الذين كانوا ينتظرون خروج «قطب» بفارغ الصبر لتنفيذ مخطط الانتقام الشامل لما جرى فى الجماعة عام ١٩٥٤، حين دخل قادتها وقواعدها السجون من أوسع أبوابها، على خلفية محاولة اغتيال «عبدالناصر» فى المنشية. ثم تمضى المحكمة لاستعرض السياق التنظيمى الذى نظم هؤلاء الأفراد تحت لوائه، ورتب القيادة والاختصاصات، بحيث يكون سيد قطب هو قائد التنظيم. ويخلفه فى القيادة رفيق زنزانته، محمد يوسف هواش، حال تعرّض القائد والملهم لأى ضرر أو أذى. ثم ينتظم فى ما بعد كل من عبدالفتاح إسماعيل وعلى عبده عشماوى وأحمد عبدالمجيد عبدالسميع فى مهام متقاطعة من تمويل وتوفير سلاح وتجنيد وجمع معلومات وتدريب الأفراد.
"الحيثيات": الثابت من التحقيقات أن هدفه الاغتيالات والنسف والتخريب
فى الصفحة ٤٨ من الحيثيات: «وفى شهر يونيو ١٩٦٥، نمى إلى علم المتهم أن سلطات الأمن تسعى للكشف عنهم، فاستعرضوا إمكانياتهم لتنفيذ مخططاتهم وقلب نظام الحكم القائم بالقوة، وانتهى الرأى بأن اتفقوا على التنفيذ باغتيال السادة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومدير مكتب السيد المشير ومدير الشرطة العسكرية، وأوصى المتهم الأول بضرورة ضرب المراكز الرئيسية فى البلاد وتخريب محطات توليد الكهرباء والتليفونات ومحطات المياه والقناطر الرئيسية، وتقرّر الإسراع فى تدريب الأفراد، ليكونوا على أهبة الاستعداد خلال شهر واحد».
"قطب" أصر على أن الغرض من إنشاء "التنظيم" دفاعى وليس هجومياً
ثم استعرضت المحكمة جرائم الاغتيالات التى نفّذتها جماعة الإخوان على مدار ٣٨ عاماً منذ نشأة الجماعة ١٩٢٨، ومنذ ذاعت أعمال الجهاز السرى بقيادة عبدالرحمن السندى، من اغتيال كل من القاضى أحمد الخازندار، وحكمدار العاصمة سليم زكى، ورئيس وزراء مصر محمود فهمى باشا النقراشى، ثم أحراز قضية السيارة الجيب، ثم تفجيرات الكريسماس، وأعمال الجهاز الخاص، والاغتيالات البينية التى طالت السيد فايز القيادى بالجهاز على يد رفاقه. ثم محاولة اغتيال «عبدالناصر» فى المنشية.
بدا فى استعراض المحكمة للأعمال المسلحة التى اقترفتها الجماعة على مدار عمرها القصير -آنذاك- توطئة للقناعة التى ستخلص إليها من أن كل هذا منظوم فى رابط واحد، مفاده أن الجماعة مصرة على العنف بكل ما أوتيت من عزم، وأن القتل والاغتيال والتفجير ملمح ثابت معها، بحيث لا يمكن اعتبار تنظيم سيد قطب نغمة نشاز، بمقدار ما هو امتداد طبيعى لتنظيم أدمن إفراز مثل هذه القناعات والممارسات. بل تشير المحكمة فى حيثياتها إلى عدد من أعضاء التنظيم الذين عملوا فى الهيئات الكيميائية والهندسية آنذاك، وقد تورطوا فى سرقة مواد كيميائية لصالح «التنظيم»، قائلة: «من اختلس من المواد المفجرة الموجودة تحت عهدته وأعطاها لأفراد (التنظيم)، وهو يعلم علم اليقين الغرض من صناعة هذه المفجرات والغرض من استعمالها».
يوسف هواش.. سر الإعدام الغامض:
واحد من المشاهد المبهمة فى القضية هو دور محمد يوسف هواش، الذى استحق بموجبه الإعدام، ففى أدبيات الإخوان المسلمين يبدو «هواش» كإمام شهيد هو الآخر، لكنهم لا يدرون لماذا أُعدم؟، ولا يدرك كثير من المتخصصين السبب. فإذا كان «قطب» قد أعدم بسبب التخطيط للاغتيالات وتوجيه خلايا «التنظيم» لتوفير السلاح والمتفجرات، ليتمكن من تصفية «عبدالناصر» وكبار أركان دولته، فضلاً عن توفير الغطاء الفقهى والحركى لحث شباب «التنظيم» على الإقدام على نسف القناطر ومحطات الكهرباء وتنفيذ الاغتيالات، فإن إعدامه قد يكون مفهوماً جنائياً. وإذا كان عبدالفتاح إسماعيل، تدبّر توفير الأموال اللازمة من خارج البلاد وتمكن من توفير الكلفة المالية لتهريب السلاح، وعمل على تجنيد الكوادر الشابة، ولملم مشهد الجماعة المبعثر، وحوله إلى أمر واقع مسلح بمساعدة زينب الغزالى، فإن إعدامه قد يكون مفهوماً جنائياً. لكن يوسف هواش، يظل فى المشهد علامة استفهام غير جلية تمام الجلاء.
المتاح الآن فى حيثيات المحكمة يشير إلى أن أحد منشورين كتبا بخط اليد لتوجيه «التنظيم» عقائدياً فى ما يخص مسائل الحاكمية والجاهلية، كان قد كتبه سيد قطب كما هو مألوف، إلا أن المخطوط العقائدى الثانى كتبه «هواش» شخصياً فى سابقة لم تحدث داخل صفوف هذا التنظيم الذى عامل سيد قطب معاملة الأنبياء واعتبر أفكاره وحياً خاصاً يتلقاه من عل، ثم يجيئهم به. فقد أقر على عشماوى فى اعترافاته التى أودت بـ«التنظيم» كله: «يوسف هواش اعتذر عن مقابلتى لأنه مراقب».
وقد قام بتحميل رسالته إلى حميدة قطب، التى قالت: «هواش بيقول لكم إذا كنتم مصممين، فيبقى مش الرئيس بس، لأن موته مش حيهد النظام، إنما ينصح بأن عمليات الاغتيال تتم بالنسبة للأربعة اللى هم الرئيس وعبدالحكيم عامر وزكريا محيى الدين وعلى صبرى». ثم فى مشهد المواجهة الذى جمعت فيه النيابة يوسف هواش بحميدة قطب، الذى أقر فيه بتوجيهه الأوامر بعد اعتقال سيد قطب، باغتيال الأربعة الكبار. هنا قال «هواش» فى المواجهة أمام النيابة: «أنا كنت عاوز إن حميدة تنقل مسألة اغتيالات الأربعة على أساس أن ده رأيى فى خطة العمل، لكن كان فى اعتبارى، وهى تفهم ذلك، أن ده من باب التعجيز»، وبتحقيقات النيابة، وبإشارات المحكمة المتعدّدة فى حيثياتها ليوسف هواش، ودوره يمكن استجلاء الأساس الجنائى، الذى انبنى عليه حكم الإعدام بحقه.
ورغم الإصرار الذى ساقه سيد قطب أمام المحكمة من أن الغرض من إنشاء «التنظيم» كان «دفاعياً» وليس «هجومياً»، وأن الجماعة -فى نظر «قطب»- فى دفاع مشروع عن ذاتها، وأن الحكومة هى التى بدأت بالهجوم دون مبرر شرعى، إلا أن المحكمة ارتأت أن تمر على هذه النقطة بإصرار مدهش، رغم اللجاجة البادية فى هذه الحجة المتهافتة التى تجعل الإخوان والحكومة كما لو كانتا قبيلتين متناحرتين تتسلح إحداهما لمواجهة الأخرى، قالت المحكمة فى حيثياتها: «وحيث إن الثابت قضاءً وفقهاً وقانوناً أن الباعث مهما كان شريفاً، لا يعفى من المسئولية الجنائية، إذا ما ارتكبت الجرائم بقصد تنفيذ هذا الباعث الشريف. هكذا حكم القانون، أما وإن المتهمين من جماعة الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم المتهم الأول سيد قطب، لم يكن غرضهم فى يوم من الأيام -كما يشهد لهم بذلك ماضيهم السابق- غرضاً شريفاً. بل الثابت من تحقيقات هذه الدعوى أن الجماعة بدأت فى إعداد العدة لمحاربة الحكومة وقلب نظام الحكم، وحيث إن الثابت من التحقيقات أن الغرض والهدف الذى كان يسعى إلى تحقيقه (التنظيم) هو الاغتيالات والتخريب والنسف والتدمير، وليس أدل على أن الغرض لم يكن شريفاً من تقرير نسف الكبارى، خاصة القناطر الخيرية، الأمر الذى يظهر منه أن (التنظيم) لم يكن يعمل على الدفاع عن أفراده وعن اعتقالهم فقط، لأن الكبارى ومحطات الكهرباء ليست ملكاً خاصاً للحكومة القائمة، وإنما هى من الأملاك العامة التى تخدم جميع أفراد الشعب فى اجتماعياته واقتصادياته».
وتتطرق المحكمة إلى جانب مهم جداً، يتعلق بحرفية الاستجواب والاستنطاق، وإذا ما تم تحت تعذيب، أو فى ظل ظروف تحول بين المتهمين وبين الإدلاء بأقوالهم بحرية تامة، بل حتى تناقش المحكمة ما أثاره البعض من عدم دقة النيابة فى نقل أقوالهم، وحين نتعرف على مواضع عدم الدقة المزعومة فى النقل سنندهش أيما اندهاش، حيث تورد المحكمة فى حيثياتها: «يدفع بعض المتهمين أن أقوالهم بالنيابة قد أضيفت إليها أقوال لا علم لهم بها، قاصدين من وراء ذلك أن ضغطاً وقع عليهم عند التحقيق».
القاضى فنّد الشبهة القانونية التى كان من الممكن أن تحسّن موقف "قطب".. واستند إلى طلب النيابة تقرير لجنة الفتوى بالأزهر حول أفكاره
وحيث إن المحكمة عندما تعرض حيثيات هذه القضية تفاجئها -بادئ ذى بدء- ظاهرة غريبة وضحت بالنسبة لجميع المتهمين، وهى أن أقوالهم التى أدلوا بها أمام النيابة كانت سليمة، وكانت عن وعى وإرادة، ولم تكن تحت ضغط أو تهديد أو إرهاب أو وعيد، وقد أقر بذلك معظم المتهمين وجميع الدفاع، ولم يشر من المتهمين إلا نفر قليل، فذكر أن ما أوردته النيابة على لسانه من ندم وأسف على ما فعل لم يكن قوله، لكن كان هذا من صنع النيابة نفسها، أى أن الندم والأسف فقط هو العبارات التى زودتها النيابة. ولما كان هذا التزود من النيابة على فرض صحته لا يزود ولا يقلل من عناصر الدعوى، كما أنه لا يقدم ولا يؤخر فى أدلة الاتهام، التى تستند إليها عناصر الدعوى. ولم يحاول أحد منهم أن ينكر الوقائع الخطيرة المنسوبة إليه لقلب نظام الحكم. حتى إن المحكمة عندما ناقشت بعض المتهمين فى ما ثبت من وقائع الدعوى من أنهم اختلسوا بعض المواد الناسفة والأحماض من عهدتهم، أقروا أخذها، مبررين ذلك بأنها لا تعتبر سرقة، لأنها من أموال المسلمين، وتستعمل فى صالح المسلمين، وكان كل منهم يذكر هذه الوقائع فى زهو وفخار، ويذكر المتهم الأول سيد قطب أمام المحكمة، مؤكداً ما جاء فى التحقيقات من أنه «هو الذى أشار إلى نسف القناطر الخيرية».
ثم تتطرق المحكمة لمن ستصير فى ما بعد صاحبة أشهر مذكرات عن تعذيبها فى سجون «عبدالناصر» على ذمة قضية ٦٥، وهى زينب الغزالى. سيبدو التطرق إلى زينب فى هذا الوقت مدهشاً، لاسيما لمن عرف ما سيحدث فى العقود التى ستلى هذه المحاكمة.
«وحيث إن المتهمة ٣٩ زينب الغزالى، عندما ذكرت أن تعذيباً قد أصابها فى السجن قبل تحقيق النيابة، حتى قامت النيابة بسؤالها ص ٢٨٠٣ من التحقيقات:
س - هل كان لهذا التعذيب تأثير على اعترافك أمام النيابة فى هذا المحضر؟
ج - لا. لأن التعذيب تم بعد القبض علىّ من ٢٠-٨-١٩٦٥، ولو كان جو التحقيق كجو النيابة من الطمأنينة، لما كان هناك داعٍ لهذا التعذيب، وجميع ما ذكرته بمحضر تحقيق النيابة سليم، وهو الحقيقة بعينها. وأحب أن أضيف أننى معترفة بذنبى وبخطئى، لاشتراكى فى عمل سرى للإخوان المسلمين».