فى ليبيا.. السباق ما بين الحل والمستنقع التركى

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

على قدم وساق، تعمل تركيا على دفع المشهد الليبى إلى هاوية ممتدة لا سقف لها، تماثل النموذج السورى فى أقل تقدير، إن لم تتجاوزه فى تداعياته، بالنظر إلى موقع ليبيا الجغرافى وإطارها الإقليمى، الذى بقدر تمايزه عن سوريا إلا أن له من خصوصية تأثيره، ما يفتح الباب على احتمالات تثير قلقاً بالغاً وتستنفر دوائر التهديد، وهذا ما جرى خلال أسبوع واحد مضى منذ إعلان أنقرة، عن عزمها تقديم مساعدات عسكرية قد تصل لحد الوجود المباشر لـ«حكومة الوفاق» بطرابلس العاصمة.

دول مثل مصر واليونان وقبرص حسمت أمرها مبكراً وتقف فى وجه هذه المستجدات برفض صريح وواضح لا لبس فيه، فلديها إدراك واسع بحجم المخاطر التى يمكن أن تتعرض لها مصالحها الاستراتيجية، التى لا تقبل المساومة، فى حال مضت أنقرة فى تنفيذ «خدعة» حصولها على اتفاقيات بحرية وأخرى أمنية، تشرعن وجودها العسكرى على الأراضى الليبية. فرنسا أعلنت وقوفها ضد هذا المخطط التركى، وهى تتناقض مع المشروع العثمانى فى أكثر من منطقة، لكن فى ليبيا قد تكون وتيرة الفعل السياسى أعلى، أو تكون تلك الساحة فرصة لتعويض الضيق الذى يلف موقفها فى ساحات أخرى، لتصير تلك التطورات الأخيرة فرصة سانحة لباريس كى ترد الصاع بأكثر من صاع على وجه طموح التمدد الأردوغانى. الدولة الأخيرة التى جاءت بعد تردد لتنضم لهذا القطار الرافض، والمستنفر للمجابهة، كانت إيطاليا فقط الأحد الماضى، تحسم أمرها بوضوح أخيراً معلنة على لسان رئيس وزرائها «جوسيبى كونتى»، رفضها لمشروع الرئيس التركى رجب أردوغان فى ليبيا.

روما طوال سنوات الأزمة والفصول الأخيرة منها على وجه الخصوص، اتسمت سياستها بحالة من الغموض والانغلاق على نفسها، حتى عندما حاولت عبر «مؤتمر باليرمو» أن تبدد مخاوف الأطراف الأخرى، بعدما بدا أنها أكثر انحيازاً لـ«حكومة الوفاق» وتحاول طوال الوقت، وضعها فى كفة توازن مع بقية المكونات الليبية، ممثلة فى البرلمان والحكومة المؤقتة وقبلهما الجيش الوطنى الليبى. لم يسهم «مؤتمر باليرمو» بتغيير حقيقى فى المواقف. أخيراً وضع تلويح «أردوغان» بالتدخل العسكرى فى ليبيا، تحت مظلة إبرامه اتفاقاً مع فايز السراج بهذا الخصوص، غيّر فيما يبدو موقف إيطاليا ووضعها مباشرة أمام تساؤل لا يجوز المداورة إزاءه، أين تقف روما من الطلب المقدم من حليفها الافتراضى لسرعة إرسال نجدة عسكرية تركية، وهنا أجابت إيطاليا «مبدئياً» بالرفض، وسيظل البحث عن أماكن وقوفها الفعلية لاحقاً لتلك الإجابة، فروما تتمايز عن الأطراف الأخرى بامتلاكها لنقاط ارتكاز بعضها عسكرى بغرض التأمين وآخر استخباراتى نشط، يضع إيطاليا فى حالة إلمام كامل بكل ما يدور فى المدن الليبية وسواحلها. هذا الأمر يقع بشكل رئيسى فى كل من «طرابلس» و«مصراتة»، والأخيرة بها مستشفى عسكرى إيطالى كبير جاهز لاستيعاب أى من الحالات أو المواقف الحرجة، التى يمكن أن تندلع بغتة كعادة سيناريو الأحداث الليبية.

تركيا بدأت فعلياً تنفيذ التدخل العسكرى لصالح «حكومة الوفاق»، ليس بالصورة التى تحاول إلباسها ثوب الشرعية عبر طلب «السراج»، بل من خلال إرسال «مقاتلين مرتزقة» انخرطوا طوال سنوات مضت فى صفوف التنظيمات الإرهابية العاملة فى سوريا، والتى تدار من الأراضى التركية فى مدينة «غازى عنتاب» ومحيطها على وجه الخصوص، ففيها جرت صناعة الجسد الإرهابى الكبير «الجيش الوطنى السورى الحر»، الذى جرى استخدامه كقوات متقدمة ورئيسية فى العمليات العسكرية الثلاث التى قامت بها تركيا، تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب» مخترقة الشمال السورى بكامله تقريباً. هذا الجيش المرتزق، مثل عباءة فضفاضة لم تكن هى الوحيدة المكون المسلح الذى تديره الاستخبارات العسكرية التركية، لكنه تميز كونه ظل جاهزاً لاستقبال فلول الفصائل والتنظيمات الصغيرة، التى ما تلبث أن تنهار عملياتياً على الأرض أو يتفكك بنيانها التنظيمى، حتى يجرى فتح أبواب هذا الجيش لضم بقاياها المدربة على استخدام السلاح، التى لن تجد لها مخرجاً آمناً من دائرة الارتزاق الإرهابى الجهنمية. هذا الجيش المزعوم وقبله عشرات الفصائل المشار إليها، يواجهون اليوم على الأراضى السورية تضييقاً كبيراً، وانحساراً حقيقياً يمثل أزمة «تموضع» وجودية وضاغطة على مسار التوافق السياسى بين الأطراف اللاعبة هناك. وبالطبع تركيا فى القلب من تلك الأطراف وغارقة لأذنيها فى ترتيبات ومساومات لا نهاية لها.

لذلك، ففى هذا الفصل الحرج من عمر الأزمة السورية، جاءت ليبيا ربما لتمثل حلاً سحرياً أمام أنقرة كى تضرب مجموعة من العصافير، بطلقة إرهاب واحدة متمثلة فيما يمكن اعتباره «إعادة تدوير»، وتموضعاً جديداً يحقق لها القدرة على الإمساك برأس حربة إرهابية، مربوطة فى طرفها الآخر بإدارة ظلت لسنوات تنخر فى جسد الإقليم، من أجل إعلاء مشروع عثمانى متكامل للاستحواذ والنفوذ، تقوم عليه جماعة «الإخوان» وفروعها فى المنطقة والعالم. هذا المشروع بامتداداته الواسعة أصبح اليوم لديه أطماع صريحة ومعلنة، فى ثروات الطاقة الموجودة فى منطقتنا، وفى مياه هذه الأطراف الإقليمية المتداخلة فى هذا المشهد، وأظنه لن يكون بعيداً عن الإقدام على مغامرة كبيرة فى ليبيا، إما لاستخدامها كورقة ضغط أو مساومة فيما يطمح إليه، أو لصناعة مشهد من الفوضى الهائلة علها تكون طريقة للاستحواذ على القدر الذى يتيسر له، هكذا تبدو خطط تركيا فى مسار الأحداث الأخيرة، وقبلها فيما هو ماثل للعيان فى ساحات صراع أخرى.